فللعبد في كل لحظة اختياران: اختيار: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)، واختيار: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ)، فهو لأيهما غلب، فإن صح التصور فكان مستنده الوحي غلب الاختيار الأخروي، وإن فسد التصور فكان مستنده وسواس النفس أو الشيطان غلب الاختيار الدنيوي، فيكون الظاهر، كما تقدم، ترجمان الباطن، فهو شاهد عدل لا يكذب على: ما اجتمع في القلب من التصورات العلمية والارادات الاختيارية التي يناط بها الثواب أو العقاب، فلا جزاء إلا على الأفعال الاختيارية، فالتكليف لا يكون لمجبور لا اختيار له، أو مكره قد فسد اختياره.
فحياة الإنسان عبارة عن مجموعة من الابتلاءات، ولكل ابتلاء طرفان: فعل وترك، فلا بد من مرجح خارجي لأحدهما، لاستحالة الترجيح بلا مرجح، فاختيار العبد لأيهما: ممكن، والممكن لا بد له من موجب يرجح أحد طرفيه، كما قرر أهل النظر، فإن كان المرجح شرعيا رجح الطرف المحمود بفعل المأمور أو ترك المحظور، وإن كان نفسانيا أو شيطانيا: رجح الطرف المذموم بفعل المحظور أو ترك المأمور.
والملائكة تسجل ذلك في صحائف الأعمال، فللعبد في كل فعل نتيجة: فإما نجاح بموافقة داعي الشرع، وإما رسوب بموافقة داعي الهوى، فيجتمع في صيحفة العبد سلاسل من النجاحات وأخرى من الإخفاقات، ويكون لأيهما غلب، فإن غلب النجاح نجا الممتحن بالتكليف في دار الابتلاء، وإن غلب الإخفاق هلك، فيكون الجزاء الأخروي فرعا عن العمل الدنيوي، وذلك من البداهة بمكان.
فأعمال القلب، وإن كانت باطنة، إلا أنها كالأعمال الظاهرة تدور على الأحكام التكليفية الخمسة، فمنها الواجب ومنها المستحب ...... إلخ.
وأظهر مثال على ذلك: حال القلب عند وقوع النازلة الكونية، فإن القلب يتردد حين وقوع المصيبة بين ثلاث مراتب:
مرتبة الرضا: وهي أعلاها، وهو مستحب على الراجح من أقوال أهل العلم، وقد أوجبه بعض أهل العلم من جهة كونه لازما لعدم السخط المنهي عنه، فيكون واجبا بدلالة اللزوم، وقد يقال بأنه لا يلزم لعدم السخط فالصبر الواجب كاف في رد السخط المنهي عنه، فبالصبر يزول أثر السخط، ويكون الرضا بعد ذلك منزلة أعلى من المنزلة الواجبة فهي مستحبة ولا تكون نافلة إلا بعد أداء الواجب.
ومرتبة الصبر: وهي الواجب.
ومنزلة السخط: وهي المحرم.
والمسدد من ثبته الرب، جل وعلا، فأبلغه منزلة الصبر، فمن اصطفاه بعد ذلك أبلغه منزلة الرضا، ولا ينالها إلا آحاد المكلفين، فكلما ارتفع المنزل: قل من يبلغه لصعوبة المرتقى، فالمنازل العالية لأصحاب الهمم العالية.
والحاصل أن في القلب: منطقتان:
منطقة الخواطر: فلا كسب فيها، ولذلك لا يتعلق بها ثواب أو عقاب، وهي تخضع لتأثير نازع الخير وهاتف الملك، أو: نازع الشر وهاتف الشيطان
ومنطقة الكسب: فهي التي تخضع للتكليف الشرعي، فتقوم بها النوايا الصالحة أو الفاسدة التي يظهر أثرها لزوما في أعمال الجوارح الظاهرة.
والله أعلى وأعلم.