«أي ولا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً إلى أحوال الدنيا والممتعين بها من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة؛ فإنّ ذلك كلَّه زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه يوم القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختباراً؛ ليعلم من يقف عندها، ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً».
وما أحسن قول أبي فراس الحمداني:
إن الغنيَّ هو الغنيُّ بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا قنعتَ فكل شيء كافي
ومما يوصل إلى ذلك أن ينظر الإنسان إلى من هو أدنى منه في أمور الدنيا، وإلى من هو أعلى منه في أمور الدين وسائر الفضائل؛ فهذا هو المعيار الحقيقي، وتلك هي الموازنة المجدية؛ فهي تُبصِّر الإنسان بنعمة الله، وتقوده إلى شكره وإيثار محابِّه.
فإذا نظر الإنسان إلى من هو فوقه في التقوى، والعلم، وسائر الفضائل - حمله ذلك على العمل والمسارعة إلى الخيرات.
وإذا نظر إلى من هم دونه في أمور الدنيا في الصحة والمال ونحو ذلك - قاده ذلك إلى مزيد من الشكر.
وإلى هذا المعنى العظيم يشير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضِّل عليه» متفق عليه.
وزاد مسلم: «فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم».
قال ابن بطال - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: «هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأنّ المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها - إلاّ وجد من هو فوقه؛ فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله؛ فيكون أبداً في زيادةٍ تُقَرِّبه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلاّ وجد من أهلها من هو أخسُّ حالاً منه. فإذا تفكر في ذلك علم أنّ نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضَّل عليه بذلك من غير أمر أوجبه؛ فيلزم نفسه الشكر؛ فيعظم اغتباطه بذلك في معاده».
ولقد أحسن ابن الرومي أيّما إحسان في قوله:
إذا ما كساك الله سربال صحة ... ولم تخلُ من قوت يحل ويَعْذُبُ
فلا تغبطَنَّ المترفين فإنهم ... على حَسْبِ ما يكسوهم الدهر يسلب
ولا يعني كل ما مضى ذكره أن يكون الإنسان راضياً بالدون، غير ساعٍ إلى الأعلى والأكمل في أمور دينه ودنياه.
ولكنها دعوة إلى الرضا بما هو في الإمكان، والسعي إلى ما هو أعلى وأرفع.
* جامعة القصيم
ـ[السراج]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 06:31 ص]ـ
لله درّكما!
مقال في الصميم، تتلهف النفس لقراءته مرات ومرات، وتتلهف قبل ذلك لكتابته.
وما أجمل حين يُلامس المكتوب الواقع - بحذافيره - فإننا نجد ذلك وسألتُ يوماً عن ذلك السرّ الذي يجعل شخص ما ينظر إلى ما عند غيره بأنه أفضل مما عنده فقيل لي: إنها طبيعة النفس الملولة التي تنظر لأفق قريب!
ـ[الخطيب99]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 08:16 ص]ـ
كل الشكر والامتنان لهذا النقل الممتع و المفيد
جزاك الله خيراً
باقات من الورد د. خالد
ـ[الخبراني]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 11:23 ص]ـ
إذا ما كساك الله سربال صحة ... ولم تخلُ من قوت يحل ويَعْذُبُ
فلا تغبطَنَّ المترفين فإنهم ... على حَسْبِ ما يكسوهم الدهر يسلب
جزاك الله خير د / خالد
ـ[بل الصدى]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 01:51 م]ـ
موضوع رائع!
بوركم فيكم يا دكتور خالد على هذا النقل المفيد، الذي مس الكاتب فيه أمرا دقيقا في سياق محكم بين العرض و الحل، و قد أصاب فيما ذكره كبد الحقيقة، فالنظر فيما في أيدي الناس مجلبة للحسد المذموم شرعا و عرفا، و قد يكون حائلا دون بلوغ الأرب لتعاظم الآمال و تقاصر الهمم، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 02:29 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد:
الأستاذ والدكتور الفاضل: خالد الشبل
جزاك الله خيرا، مقال رائع، وموضوع جميل، ولقد استفدنا منه.
وأحب أن أضيف هذه الحكمة أو القصة تدور في فلك موضوعكم:
هذه القصة منقولة:
جاء في حكم وقصص الصين القديمة أن ملكا أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له: امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيرا على قدميك .. فرح الرجل وشرع يزرع الأرض مسرعا ومهرولا في جنون .. سار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها .. ولكنه غير رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد .. سار مسافات أطول وأطول وفكر في أن يعود للملك مكتفيا بما وصل إليه .. لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد والمزيد .. ظل الرجل يسير ويسير ولم يعد أبداً .. فقد ضل طريقه وضاع في الحياة .. ويقال إنه وقع صريعا من جراء الإنهاك الشديد .. لم يمتلك شيئا ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة لأنه لم يعرف حد الكفاية.
انتهى
يقول الإمام الشافعي
رأيت القناعة رأس الغنى فصرتُ بأذيالها مُمتسكْ
فلا ذا يراني على بابه ولا ذا يراني به منهمكْ
فصرتُ غنيًّا بلا درهم أمرٌ على الناس شبه الملكْ
اللهم ارزقنا القناعة والرضا بما قسمت لنا / اللهم آمين.
¥