قلت: ومن يجهز ملابسكما وطعامكما؟ قال: الخادمة، وبعض الأيام أنا؛ لأن زوجة أبي تمنعها، وتجعلها تغسل البيت. وأنا الذي أجهز ملابسي وملابس أيمن مثل اليوم. اغرورقت عيناي بالدموع، فلم أعد أستطيع حبس دموعي. حاولت رفعَ معنوياته، فقلت: لكنك رجلٌ، ويُعتمدُ عليك. قال: أنا لا أريد منها شيئًا. قلت: ولماذا لم تلبسا لبسًا شتويًّا في هذا اليوم؟!
قال: هي منعتي. قالت: خذ هذي الملابس، واذهبوا الآن للمدرسة، وأخرجتني من الغرفة، وأقفلتْها.
قدم المعلمون والطلاب للمدرسة قلت لياسر - بعد أن أدركت عمق المعاناة والمأساة التي يعيشها مع أخيه -: لا تخرجا للطابور، وسأعود إليكما بعد قليل. خرجت من عندهما، وأنا أشعر بألم يعتصر قلبي، ويقطع فؤادي: ما ذنب الصغيرين؟! ما الذي اقترفاه حتى يكونا ضحية خلاف أسري وطلاق وفراق؟!
أين الرحمة؟!
أين الضمير؟!
أين الدين؟!
بل أين الإنسانية؟!
قررت أن تكون قضية ُ ياسر وأيمن هي قضيتي؛ جمعت المعلومات عنهما، وعن أسرة أمهما، وعرفت أنها تسكن في الرياض. سألت المرشد الطلابي بالمدرسة عن والد ياسر، وهل يراجعه؟!
أفادني بأنه طالما كتب له واستدعاه، فلم يجب، وأضاف: الغريب أن والدهما يحمل درجة الماجستير!
قال عن ياسر: كان ياسرُ قمة ً في النظافة والاهتمام، وفجأة تغيرت حالته من منتصف الصف الثالث. عرفت فيما بعد أنه منذ وقع الطلاق. حاولت الاتصال بوالده، فلم أفلح فهو كثير الأسفار والتَّرحال ... بعد جهد حصلت على هاتف أمه، واستدعيت ياسرًا يومًا إلى غرفتي، وقلت له: ياسر، لتعتبرْني عمَّك أو والدك؛ ولنحاول أن نصلح الأمور مع والدك، ولتبدأ في الاهتمام بنفسك. نظر إليَّ، ولم يجب، وكأنه يستفسر المطلوب.
قلت له: حتمًا والدك يحبك، ويريد لك الخير، ولا بد أن يشعر بأنك تحبه، ويلمس اهتمامك بنفسك وبأخيك، وتحسنك في الدراسة أحد الأسباب. فهزَّ رأسه موافقًا، فقلت له: لنبدأ باهتمامك بواجباتك، فاجتهدْ في ذلك. قال: أنا أريد أن أحل واجباتي لكن زوجة أبي لا تتركني أحل. قلت: أبدًا، هذا غير معقول أنت تبالغ. قال: لا يا أستاذ، أنا لا أكذب. هي - دائمًا - تجعلني أعمل في البيت، وأنظف الفناء. صدِّقني.
قلت: حاولْ ألا تذهب للبيت إلا وقد قمتَ بحلِّ ما تستطيع من واجباتك. رأيته خائفًا مترددًا، وإن كان لديه استعدادٌ. قلتُ له (محفزًا): ياسرُ، لو تحسّنتَ قليلاً سأعطيك مكافأة هي أغلى مكافأة تتمناها. نظر إليَّ وكأنه يسأل عن ماهيتها. قلت: سأجعلك تكلم أمك بالهاتف من المدرسة.
(ما كنت أتصور أن يُحْدِثَ هذا الوعدُ ردة َ فعل ٍ كبيرة ً)
لكنني فوجئت به يقوم، ويقبل عليَّ مسرعًا، ويقبض على يدي اليمنى، ويقبلها وهو يقول:
أرجوك، أرجوك - يا أستاذ - أنا مشتاق لأمي، لكن لا أريد أن يعلم أبي. قلت له: ستكلمها - بإذن الله - شريطة أن تعدني أن تجتهد. قال: أعدك. بدأ ياسر يهتم بنفسه وواجباته، وساعدني في ذلك بقية المعلمين، فكانوا يجعلونه يحل واجباته في حصص الفراغ، أو في حصة التربية الفنية، ويساعدونه على ذلك. كان ذكيًّا سريع الحفظ، فتحسن مستواه في أسبوع واحد.
(صدقوني نعم تغير في أسبوع واحد).
استأذنت المدير يومًا أن نهاتف أمَّ ياسر، فوافق. اتصلت في الساعة العاشرة صباحًا، فردتْ امرأة ٌ كبيرة ُ السن ِّ. قلت لها: أم ياسر موجودة. قالت: ومن يريدها؟
قلت: معلم ياسر. قالت: أنا جدته يا ولدي ما أخباره؟! حسبي الله على الذي كان السبب. حسبي الله على الذي حرمها منه. هدأتها قليلاً، فعرفت منها بعض قصة معاناة ابنتها (أم ياسر)، قالت: لحظة أناديها (والسعادة خيمت عليها من الفرح). جاءت أم ياسر المكلومة مسرعة حدثتني وهي تبكي قالت: أستاذ، ما أخبار ياسر؟ طمئني الله يطمئنك بالجنة. قلت: ياسر بخير وعافية، وهو مشتاق لك. قالت: وأنا كذلك، فلم أعد أسمع إلا بكاءها ونشيجها. قالت: وهي تحاول كتمَ العَبَرات: أستاذ، أرجوك
أتمنى أن أسمع صوته وصوت أيمن؛ فمنذ أكثر من خمسة أشهر لم أسمع صوتهما.
لم أتمالك نفسي، فدمعت عيناي:
¥