"وإنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي صلى الله عليه و سلم في طعامه وكسوته فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين بل كان معونة له على إقامة الإيمان فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله لا نفقة على نفس الرسول فاشترى المعذبين مثل بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة وجماعة".
بتصرف من "منهاج السنة"، (8/ 549_551).
وكان، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من أتجر قريش حتى دخل في الإمارة)، فترك تجارته لما تولى إمارة المسلمين، وقدم النظر في مصالح المسلمين على حظوظ نفسه، ولا تقوى على ذلك إلا النفوس السخية.
ومن عجب أن يكون صاحب هذا القلب الشجاع، رجلا، كما تصفه أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: (أبيض، نحيل، خفيف العارضين، أجنأ، "أي: في ظهره انحناء"، لا يستمسك إزاره، يسترخي عن حقويه، "من نحافته"، معروق الوجه، "أي: لحم وجهه قليل"، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، "مفاصل اليد").
طبقات ابن سعد، (3/ 188).
وأخيرا فإنه لا يجمل بالمؤمن أن يذل نفسه، فكثير منا يتصور في بعض لحظات النشوة أنه قادر على تجشم العناء في سبيل نصرة الدين، فيتمنى الابتلاء، فإذا ما تعرض لأدنى امتحان في النفس أو المال، انفسخت عزيمته وخارت قواه، وعند الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: أَنْ يَتَعَرَّضَ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ)، والحديث عند الشهاب، رحمه الله، في مسنده من طريق حذيفة، رضي الله عنه، وأخرجه عبد الرزاق، رحمه الله، في مصنفه من حديث قتادة مرسلا.
فالشجاعة في غير موضعها: تهور، والكرم في غير موضعه: سفه.
و: الرأي قبل شجاعة الشجعان ******* هو أول وهي المحل الثاني.
ودليلنا في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا)، البخاري: 2744.
فيوطن المسلم نفسه على وقوع الابتلاء من غير أن يتمناه أو يستعجله، بل يسأل الله، عز وجل، السلامة في دينه ودنياه، فإذا ما وقع سأل الله، عز وجل، الصبر والثبات.
يقول أبو العباس رحمه الله:
"ومن قال: لو أدخلني النار لكنت راضيا فهو عزم منه على الرضا والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال:
(وليس لي في سواك حظ ******* فيكف ما شئت فامتحني)
فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، قال تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} "
"الفتاوى الكبرى" الجزء الخامس.
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
يقول ابن كثير رحمه الله:
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام - وهم بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُّصُب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا. فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جَزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، ويُتْم الأبناء، وتأيّم النساء، وهذه الآية في معنى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةُ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونُ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
ملاحظة: استفدت ترتيب هذه الثنائية من رسالة "الربانيات والإلهيات" من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، للشيخ الدكتور: أبي الفضل عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم، حفظه الله ورعاه، وقد أجاد أيما إجادة في ترتيب مادة هذا البحث القيم، فجزاه الله خيرا على ما جمع ورتب وأخرج.