إلاّ أن هذا البحر كان شامساً على قواعد الخليل جميعها، مما جعل الخليل يترك له حبله على غاربه. فلما كثرت الكتابة عليه، أراد (أبو محمد العروضي)، تلميذ الزجاج، أن يجد له موقعه بين البحور، فألصقه خطَلاً بأحد البحور المهملة في دوائر الخليل، ثم أصّل (أبو نصر الجواهري)، قواعدَه المعروفة إلى اليوم، فجعلاه قائماً على (فاعلن)! وهما بحران مختلفان شتان بينهما.
البحر الثالث هو ما كان يسمى (بمخلّع البسيط)، وهو عند الخليل صورة من صور مجزوء البسيط، أشار بعض العروضيين إلى تميزه، ودعا بعضهم إلى إفراده بحراً قائماً بنفسه، وقمت في دراستي هذه بالتأصيل العلمي لهذا البحر، بحراً مستقلاً بذاته، تركت له اسم (المخلّع)، حتى لا تنقطع صلةُ قصائده بمسماها الأول.
البحر الرابع: هو ما أطلقت عليه (البحر اللاحق)، وهو بحر أورد له القرطاجني شاهدَه من شعر الأندلسيين، دون أن يسميه.
وأخيراً، قمت بالتأصيل العلمي لبحري (الدوبيت، وشقيقه: السلسلة) في كتابي: (البحر الدبيتي). تلك ستة كاملة.
- ما رأيك ببعض البرامج الحديثة التي تفتح للشاعر سبل تعلم العروض والقافية؟
* كل ما من شأنه أن يقدم هذا العلم إلى المتعلم بطريقة محببة إلى نفسه يمكن أن يفيد فئة ما من المتعلمين، المهم أن يستطيع البرنامج أن يأتي بالجديد النافع.
- هل الكتابة العروضية أو التقطيع الشعري يعد ذا فائدة للشاعر لسبك قصيدته؟
* الكتابة العروضية؛ كتابة طلّسمية، كثيراً ما تربك العين، وتشوش الفكر! دعوت في كل ما كتبت إلى تجاوزها، إلاّ فيما نحتاج إليه بدايةً لشرح الجانب الصوتي من عملية الوزن والتقطيع.
أما التقطيع الشعري، فربما لا يعوّل عليه أكثر الشعراء الموهوبين، إلاّ أنه من ضرورات إتقان صنعة الشعر، وما أكثر القصائد التي أخلّ بوزنها الشعراء، ولو أنهم عرضوها على ميزان الشعر لما أرسلوها بما تحمله من خلل في الوزن.
- هل امتلاك فن التقطيع كفيلا بأن يقدم لنا شاعرا؟
* لا يكفل فن التقطيع، ولا علم العروض ذاته، أن يقدم لنا الشاعر! لا بد من الموهبة أولاً، ومن ثم لا بد من امتلاك الأداة.
- قدمت دراسة لما يسمى بالبحر الدوبيتي، هلا تقدم لنا شيئا عن ذلك البحر؟ أعني تعريفا، وكيف كان أثره عند المتلقي؟
* أحيل المتابع إلى ما نشرته عن الدوبيت على هذا الرابط من الفصيح.
- قدمت كتابا مطبوعاً بعنوان " كن شاعراً"، يهدف إلى تعلم طريقة جديدة وميسرة لتعلّم أوزان الشعر العربي، ألا ترى معي أن الكتاب يغفل عن خصيصة مهمة ألا وهي الموهبة في المقام الأول ليكون عليها الشاعر؟
* وهل تعلّم قواعد اللغة العربية من نحو وصرف يُقدّم لنا أديباً؟! كلاّ. فلا بد للشاعر من استكمال أدواته كما قلت، وتعلم قواعد الشعر أحد أدوات الإبداع فيه. والشاعر بحاجة إلى تعلم الأوزان حاجته إلى تعلم اللغة، وقواعدها، وأساليب الكتابة فيها، ومعرفة مفاصل تطور هذه الأساليب.
- هناك من يكتب القصيدة اعتماداً على أذنه الموسيقية دون أن يكون ملمّاً بفن التقطيع أو الكتابة العروضية أو دعنا نتفق على مصطلح هو الفن الموسيقي، ترى كيف تقول في ذلك؟
* لا بد للشاعر من أذن موسيقية حساسة يعتمد عليها، وهو في بداياته إنما يلتقط إيقاع الشعر بالقراءة والاستماع، ولكن لا بد للشاعر في النهاية من تعلّم العروض.
دعني أضرب لك مثالاً؛ إن عازف الربابة في البادية العربية، وضارب الطبل في أدغال إفريقية، لا يعرفان من قواعد الموسيقى شيئاً يذكر، ولكنهما كثيراً ما يعزفان اللحن الشجي المطرب، الذي ترقص على إيقاعه قبيلةٌ بأكملها. ولكن عندما يدرس هذا الموهوب قواعد الموسيقى، ويتمثل مقاماتها، ومداخلها، ومخارجها، فربما أتى بالعجب العجاب!
- حسنا ربما أكون قاسيا بعض الشيء في سؤالي التالي، إذ أننا بسعينا الحثيث نحو الشكل أعني الشكل الشعري نغفل عن أهمية اللغة الشعرية أو الحدث الشعري أو الموسيقى الشعرية، ترى إلى أي مدى كنت مصيبًا في تساؤلي؟
* لا يجب أن نغفل عن مثل ذلك أبداً. ولكننا في التعلّم يجب أن نحيط بكل ما له علاقة بالموضوع الذي نريد أن نتعلمه.
فالشعر، لغة لها قواعدها وأساليبها، فيجب علينا أن نتعلم لغة الشعر، وهو وزن وموسيقى وإيقاع، فيجب أن نتعلّم أسسَ هذه الموسيقى، وهو في شكله العربي قافية، يجب علينا أن نتعلّم قواعدها كذلك.
¥