الناس بأخذ أماكنهم في الاحتفال منذ الصباح الباكر, ولم يكن أحد في مصر لم يعرف قصة التحدي واللقاء بين هؤلاء السحرة, ولم يكن أحد يعرف بمعجزة موسى التي ستخرس كل الألسنة, وستجعل من فرعون وسحرته مثالا للكذب والتجني. كانت العصا في يد موسى u, وتقدّم السحرة خمسة, عشرة, عشرون ساحرا, وموسى يقف وحيدا في ساحة المباراة أو قل ساحة الحرب والصراع بين الحق والباطل, بين الصدق والكذب, بين التواضع وبين الكبر والافتراء, انها معركة بين الكفر و الايمان كفر فرعون وسحرته و إيمان موسى u ومعجزته. جلس فرعون تحت مظلة واقية من الشمس, ومن حوله جنوده وحاشيته وقادته وهو يرتدي أفخم الثياب المرصّعة بالجواهر, أما موسى u فوقف صامتا يذكر الله في نفسه ولا ينظر لشيء حوله. و تقدّم السحرة الى موسى u وسط الجمع الهائل الذين استجمعوا كل حواسهم لرؤية وسماع ما سيحدث. قال السحرة لموسى: {إما أن تلقي و إما أن نكون أوّل من ألقى}. قال موسى u: بل ألقوا. فقال السحرة: نحن الغالبون بعزة فرعون. فقال موسى: ويلكم, لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب أليم. في هذه اللحظة, التفت موسى فاذا جبريل على يمينه يقول له: يا موسى ترفق بأولياء الله, قال موسى لنفسه: هؤلاء سحرة جاءوا ينصرون دين فرعون, عاد جبريل يقول: ترفّق بأولياء الله, هم من الساعة الى صلاة العصر عندك .. , وبعد صلاة العصر في الجنة. و هؤلاء السحرة اختلف في عددهم فقال كعب: انهم كانوا اثني عشر ألفا. وقال عالم آخر: بضعة وثلاثين. وقال عكرمة: سبعين ألفا. وقد أجمعت الأقاويل على أن فرعون جمع السحرة وهم سبعون ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس فيهم الا من هو ساحر ماهر, ثم اختار سبعمائة ثم اختار سبعين من كبارهم وعلمائهم, وكان رئيسهم يسمّى شمعون, وقيل يوحنّا وقيل ان أعلم السحرة كانا بأقصى الصعيد وكانا أخوين. نعود الى ساحة المباراة: لما قال لهم موسى u:{ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فتناجى السحرة فيما بينهم, فقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر, فذلك قول الله U:{ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النّجوى} فقال السحرة: {فلنأتينّك بسحر مثله} 0 رمى السحرة بعصيّهم وحبالهم, فإذا المكان يمتلئ بالثعابين والحيّات التي تجري هنا وهناك فجأة لقد سحروا أعين الناس, و استرهبوهم وأخافوهم و جاءوا بسحر عظيم, وهلّل المصريون مكان الاحتفال, وابتسم فرعون ابتسامة عريضة وظنّ أنه قضى على موسى u. نظر موسى الى حبالهم وعصيّهم فشعر بالخوف, وكذلك هارون الواقف الى جواره, ولكنه سرعان ما سمع صوتا يقول له: {لا تخف انك أنت الأعلى* وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} 0 اطمأن نبي الله موسى حين سمع رب العالمين يطمئنه, ولم يعد يرتكب أو ترتعش يداه, ثم رفع عصاه وألقاها فجأة. و لم تكد عصا موسى u تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة, فقد تحوّلت الى ثعبان جبار سريع الحركة, وتقدّم هذا الثعبان فجأة نحو حبال السحرة وعصيّهم التي كانت تتحرّك وبدأ بأكلها واحدا بعد آخر. راحت عصا موسى u تأكل حبال السحرة وعصيّهم بسرعة مخيفة. و في دقائق معدودات خلت ساحة المباراة تماما من كل حبال السحرة وعصيّهم, لقد اختفت في بطن عصا موسى, ومشى الثعبان الضخم في أدب نحو موسى, ومدّ موسى يده فتحوّل الثعبان الى عصا. أدرك السحرة أن هذا ليس سحرا, لعلمهم بالسحر وعلومه.
و كانت المفاجأة الكبرى: لقد سجد السحرة جميعا على الأرض وقالوا: {آمنّا برب العالمين ربّ موسى وهارون}.إنها المعجزة التي تولّد معها الايمان بالله U ولكن لم ينتهي دور العصا بعد0 استمر الصراع بين الحق والباطل, وبين موسى uوفرعون الكافر, وقرر فرعون ومن معه من الناس قتل موسى وأتباعه, وعلم موسى بذلك فصحب أتباعه ليلا وسار بهم نحو البحر قاصدا بلاد الشام, وعلم فرعون بذلك فحشد جيشا ضخما, وتحرّك جيش فرعون في أبّهته وعظمته وسلاحه وخرج وراء موسى. و مضى الجيش مسرعا يثير غبارا شديدا وموسى ينظر خلفه فيرى غبار الجيش يطارده, فامتلأ قوم موسى رعبا, وكان الموقف حرجا وخطيرا, فالبحر أمامهم والعدو وراءهم ولا مكان للهرب, ولا توجد لديهم القدرة على القتال والحرب, وقالت النسوة وبعض الرجال: سيدركنا فرعون بجيشه .. سيهلكنا جميعا, ولكن موسى u قال: كلا .. ان معي ربي سيهدين. تحسّس موسى عصاه مطمئنا .. طوّحها في الهواء وضرب بها البحر فانفلق الى جزأين, كل منهما كالطود العظيم, وتقدّم موسى في الطريق الجديد وسط البحر وتبعه فرعون. و انتهى موسى من عبور البحر, فنظر وراءه وأراد أن يضرب بعصاه ولكن الله أوحى اليه بأن يترك البحر على حاله وينتظر حتى يدخل كل جنود الكفر في الطريق وسط البحر: {واترك البحر رهوا, انهم جند مغرقون} 0ولما أذن الله تعالى, ضرب موسى u البحر بعصاه ثانية, فعاد البحر كسالف عهده, وانهالت الأمواج على فرعون وجنوده, ولما أدرك الغرق فرعون قال: {آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} 0 و لكن الله لم يقبل توبته لأنها جاءت متأخرة, فقد عاث في الأرض فسادا وكبرا, فكان من المغرقين.