وانصرفت عنها آلام قدميها, مسرعة إلى مكان هي تعرف ارتباطه بهذا الأمر وهذه الآية, التي انصرفت مشيئة الله أن يكون عزير بطلها, لقد خرجت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم, وأخبرتهم بخبر وصوله, وكان على رأس المجلس شيخ وقور أخذ منه الدهر ما أخذ, إنه ابن عزير الذي بلغ من العمر عتيّا. لقد بلغ مئة سنة وثماني عشرة, وجلس شيخا في مجلسهم .. وجاءت تصرخ وتقول: هذا عزير قد جاءكم0 فقال ابن عزير الأكبر وقد رفع وجهه وفحص ببصره الضعيف هذه الفتاة: من هذه الجارية؟ فقالت: أنا جارية أبيك عزير .. أنا خادمته " أشتر", لقد جاء أبوك ودعا لي ربه بالشفاء وردّ بصري عليّ فاستجاب الله له كما عرفناه منذ مئة عام, أتدري أن الله أماته مئة عام ثم أحياه وبعثه من جديد! صمت الشيوخ جميعا وساد المجلس لحظات من الهول والصمت, وهم يسمعون كلاما يظنون أنه لا يصدق, ولكن ها هي جارية عزير ماثلة أمامهم وقد قصّت عليهم حقائق, فهي " أشتر" وهو اسمها, و عزير كان مستجاب الدعاء كما علموا وتعلموا من الآباء والأجداد, إنها حقائق لا تكذب, و عزير خرج من بينهم منذ مئة عام كما تقول أيضا, وهي الآن تدعوهم لرؤيته رؤيا العين, كل هذا دعاهم إلى الوقوف فردا فردا والتوجه إلى خارج مجلسهم كي يروا بأعينهم ما سمعته آذانهم, وأن لم يروه شكّوا في الأمر كله, فلن يصدّق أحد منهم ما سمعه من أشتر تصديقا كاملا إلا إذا مضى في طريقه إلى دار عزير ورأى بنفسه عزيرا ماثلا أمامه بهيئته التي فقدت خيالها وملامحها ذاكرتهم, مضى القوم في الطريق إلى دار عزير, ولم يتوقف أحد منهم ولم يتحدث أحد منهم إلى أحد0 تقدّم ابن عزير الجميع وهو يتكئ على عصاه وقد أهلكته الشيخوخة ولم يسعفه الكبر كي يسرع الخطى أكثر من هذا, لقد بلغ مئة وعشرين عاما, و"أشتر" تقول إن أباه هناك في سن الصبا وهو في سن الأربعين, يا له من أمر يعجب له الإنسان المحدود بفكره وقدرته0 وعلى مشارف المنزل وعلى مقربة منه تمعّن ابن عزير ومسح عينيه كي ينقشع عنهما بعض ما تركه الزمن من غمامة, فرأى شابا في الأربعين قد وقف شامخا شديدا عظيم البنية وقد أضاء وجهه نور الإيمان
و تقوى القلب0 حيّا ابن عزير أباه وهو يتفحّص وجهه وقال في هدوء شديد موجها حديثه إلى أبيه عزير: إن لي في أبي علامة0 فقال عزير u: وما هي؟ قال الابن الشيخ: شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه0 صمت الابن الشيخ وساد الصمت المكان لحظات, والجميع يتطلع بعينه إلى عزير, وظنوا أن الأمر فيه من الكذب, فالأب شاب واقف في شموخ والابن عجوز لا تكاد رجلاه تحملانه0 صمت عزير u قليلا ثم حرّك يديه وكشف لابنه عن كتفه فنظر الابن إلى كتف أبيه فوجد الشامة السوداء مثل الهلال على كتفه .. هلل الابن الشيخ وقبّل أباه ورحّب به وقال: إنه حقا أبي وأشهد أنه أبي .. وهلل معه بنو إسرائيل جميعا وفرحوا بمجيء عزير و وجوده بينهم0 لكن أحد الأحبار قطع هذا الترحيب بدليل جديد يريد أن يتأكد من خلاله أن هذا الشاب الماثل أمامه الذي مات مئة عام وكان له من العمر أربعين قبلها هو عزير حقا0 قال الحبر: إن لنا نحن بنو إسرائيل في عزير علامة, غير التي شهدها ابنك وشهد أنك أباه0 قال: لم يكن فينا أحد يحفظ التوراة عن ظهر قلب كما حفظها عزير0 فقال u في ثقة واعتزاز, وصدق وكبرياء لهؤلاء الناس: وأنا أحفظ التوراة عن ظهر قلب0 قام بعض شيوخ بني إسرائيل وانسحبوا من المجلس و جاءوا بنسخة من التوراة قديمة كان أحدهم قد خبأها خوفا من بختنصر الذي كان يحرق التوراة أو يريد حرقها, و قالوا لعزير: اقرأ علينا التوراة, ونحن نراجع إن كنت تحفظها أم لا0 جلس u شابا وسط القوم وشرع يقرأ التوراة عن ظهر قلب وهم يراجعون عليه في صحف التوراة, وظل يقرأ ويقرأ وهم يزدادون خشوعا حتى انتهى منها دون أن يخطئ في حرف واحد من حروفها, أو يتردد في آية واحدة من آياتها أو كلماتها0 شهد الجميع بأنه عزير, وفرحوا به, ونظر بعضهم في المجلس فوجد آية عظيمة من آيات الله, لقد جلس عزير في هذا المجلس وفيه بنوه وبنو بنيه وهم شيوخ وقد شاب شعرهم وشابت لحاهم, وقوّست السنون ظهورهم و حنتها بشدة, بينما يجلس عزير شابا في الأربعين أسود الشعر, قوي البنية, منتصب القامة, فكانت آية عظيمة, وكان u آية بما حدث له وحدث معه من مشاهد اختصه الله بها حينما قال له: {ولنجعلك آية للناس} 0 حقا إنه آية في موته وهو في سن الأربعين وآية في بعثه بعد مئة سنة, ورؤيته مشهد إعادة خلق حماره من جديد والعظام تتحرّك أمامه واللحم يكسو جسم الحمار من جديد, وطعامه لم يتغيّر, ولم تجففه الشمس ولا الهواء بل ظل طازجا, وقد جاءت قصة عزير في القرآن الكريم تحكي عن الآية التي جعلت فيه, وأخذت منه درسا وعظة لكي يعلم من لا يعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه I قادر على أن يحيي الموتى فهو الذي خلقها, وأماتها, وأنشأها مرّة أخرى, وهو خالق الطعام وقادر على إبقائه مئة عام دون أن يتبخر أو يتخثر أو تفوح رائحته كما يحصل خلال أيام قليلة بين يدي البشر, وهو القادر على خلق حمار عزير بعد أن أماته مئة عام وهو الذي صوّره أمام عبده عزير كي يؤمن الذين في قلوبهم تردد بأن الله على كل شيء قدير, فالخلق خلقه والكون كونه I, ليس كمثله شيء, واحد أحد فرد صمد0 و نقرأ قصته u في سورة البقرة. قال تعالى: {أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت, قال لبثت يوما أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس, وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما, فلمّا تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير}