أما في اللغة العربية فإن الخلق بمعنى الإيجاد و الإنشاء خاص بالله تعالى , و من أسمائه الخالق و الخلاق , قال تعالى في سورة النحل (17) ((أفمن يخلق كمن لا يخلق , أفلا تذكرون)) و قال تعالى في السورة نفسها (19/ 20) ((و الله يعلم ما تسرون و ما تعلنون , و الذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا , و هم يخلقون)). و قال تعالى في سورة الرعد (16) ((أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار)).
أما في هذا الزمان الذي اختلت فيه الموازين و المقاييس و صار الناس فوضى في الإنشاء العربي , فلم يبق الخلق خاصا بالله تعالى , بل صار الناس كلهم خالقين و خلاقين.
قال في لسان العرب: خلق: الله تعالى , و تقدس الخالق و الخلاق: و في التنزيل: ((هو الله الخالق البارئ المصور)) و فيه ((بلى و هو الخلاق العليم)): و إنما قدم أول وهلة , لأنه من أسماء الله تعالى:
الأزهري: و من صفات الله تعالى الخالق و الخلاق , و لا تجوز هذه الصفة بالألف و اللام لغير الله , عز وجل , و هو الذي أوجد الأشياء جميعها , بعد أن لم تكن موجودة: و أصل الخلق التقدير , فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها , و بالاعتبار للإيجاد على وفق التقدير: خالق:
والخَلْقُ في كلام العرب: ابتِداع الشيء على مِثال لم يُسبق إِليه: وكل شيء خلَقه الله فهو
مُبْتَدِئه على غير مثال سُبق إِليه: أَلا له الخَلق والأَمر تبارك الله أَحسن الخالقين. قال أَبو بكر
بن الأَنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين: أَحدهما الإِنْشاء على مثال أَبْدعَه، والآخر
التقدير؛ وقال في قوله تعالى: فتبارك الله أَحسنُ الخالقين، معناه أَحسن المُقدِّرين؛ وكذلك
قوله تعالى: وتَخْلقُون إِفْكاً؛ أَي تُقدِّرون كذباً.
وقوله تعالى: أَنِّي أَخْلُق لكم من الطين خَلْقه؛ تقديره، ولم يرد أَنه يُحدِث معدوماً. ابن سيده: خَلق الله الشيء يَخلُقه خلقاً أَحدثه بعد أَن لم يكن، والخَلْقُ يكون المصدر ويكون
المَخْلُوقَ؛ وقوله عز وجل: يخلُقكم في بطون أُمهاتكم خَلْقاً من بعد خَلق في ظُلمات ثلاث؛
أَي يخلُقكم نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عِظاماً ثم يَكسُو العِظام لحماً ثم يُصوّر ويَنفُخ فيه
الرُّوح، فذلك معنى خَلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث في البَطن والرَّحِم والمَشِيمةِ، وقد
قيل في الأَصلاب والرحم والبطن؛ وقوله تعالى: الذي أَحسَنَ كلَّ شيء خَلْقَه؛ في قراءة من
قرأَ به؛ قال ثعلب: فيه ثلاثة أَوجه: فقال خَلْقاً منه، وقال خَلْقَ كلِّ شيء، وقال عَلَّم كُلَّ شيء خَلْقَه؛ وقوله عز وجل: فلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله؛ قيل: معناه دِينَ الله لأَن الله فَطَر الخَلْقَ
على الإِسلام وخلَقهم من ظهر آدم، عليه السلام، كالذّرِّ، وأَشْهَدَهم أَنه ربهم وآمنوا، فمن
كفر فقد غيَّر خلق الله، وقيل: هو الخِصاء لأَنَّ من يَخْصِي الفحل فقد غيَّر خَلْقَ الله، وقال
الحسن ومجاهد: فليغيرن خَلْقَ الله، أَي دِينَ الله؛ قال ابن عرفة: ذهب قوم إِلى أَن قولهما
حجة لمن قال الإِيمان مخلوق ولا حجة له، لأَن قولهما دِين الله أَرادا حكم الله، والدِّينُ
الحُكْم، أَي فليغيرن حكم الله والخَلْق الدّين. وأَما قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لخَلْق الله؛ قال قتادة:
لدِين الله، وقيل: معناه أَنَّ ما خلقه الله فهو الصحيح لا يَقدِر أَحد أَن يُبَدِّلَ معنى صحة
الدين. وقوله تعالى: ولقد جئتمُونا فُرادَى كما خَلَقْناكم أَوَّل مرة؛ أَي قُدرتُنا على حَشْركم
كقدرتنا على خَلْقِكم.
و يطلق الخلق أيضا على التقدير قال في اللسان: و خلق الأديم يخلقه خلقا , قدره لما يريد قبل القطع , و قاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفا , قال زهير يمدح رجلا.
و لأنت تفري ما خلقت و بعض القوم يخلق ثم لا يفري
يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته و أمضيته , و غيرك يقدر مالا يقطعه , لأنه ليس بماضي العزم , و أنت مضاء على ما عزمت عليه. اه
أقول: و قد رأيت أهل البادية في الصحراء يدبغون جلد البعير و يقطعونه نعالا , فكلما احتاج أحدهم إلى نعلين يضع قدمه اليمنى على قطعة كبيرة من الجلد المذكور , فيأتي الشخص الذي يقطع النعلين و يخط خطا إلى جانب القدم دائرا بها و ذلك هو الخلق , ثم يقطع النعل على ذلك التخطيط , و ذلك القطع هو الفري , ثم يفعل ذلك بالقدم الأخرى , فتجيء النعلان على قدر القدمين بلا زيد و لا نقص: فقول الشاعر
و لأنت تفري ما خلقت و بعض القوم يخلق ثم لا يفري
يريد أن ممدوحه متى عزم على شيء نفذ عزمه , و غيره يعزم و يقدر , ثم لا ينفذ شيئا , لأنه خائر العزيمة , ضعيف الإرادة.
و المعنى الثالث للخلق هو الكذب: قال تعالى في سورة العنكبوت ((إنما تعبدون من دون الله أوثانا و تخلقون إفكا)) أي تكذبون كذبا. و قال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينم (()) و ليس في الكذب حيلة
من كان يخلق ما يقو (()) ل فحيلتي فيه قليلة
(تقويم اللسانين ص 14/ 16) بتصرف
و بهذا فقد علم إن شاء الله تعالى أن كلمة الخلق يستعملها كثيرا من الناس في غير موضعها الذي ارتضته لها العرب العرباء و نص عليه أهل العلم الأكفاء و هي خاصة بالله رب العالمين عند قصد الإيجاد و الإنشاء
قال عز من قائل
((أفمن يخلق كمن لا يخلق , أفلا تذكرون))
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين
¥