[مناجاة مع شيخ جليل]
ـ[فتحي قاسم]ــــــــ[26 - 03 - 2007, 01:46 م]ـ
[مناجاة مع شيخ جليل]
بمناسبة الإحتفال بمور خمسة وسبعين عاما على تأسيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة
خمسة وسبعون عاما هي كل عمرك الذي تثبته شهادة ميلادك أيها الشيخ الجليل غير أني أرى لك عمرا آخر ألمح بعضا من علاماته في تجاعيد وجهك وفي شيب رأسك هذه التجاعيد التي أرى عليها آثار أزمنة مضت مغرقة في القدم مشحونة بحكايا تداخلت فيها الأحداث والروايات التي حملت في بداياتها الأولى أثار الرمل الملتهب المتطاير في صحارى غلب عليها الجفاف والقحط ففكك أرضها رمالا ناعمة خبأت في أعماقها كنوزا لم تكشف سرها إلا لأخفاف الإبل وسنابك الخيل وسيوف فرسان القبيلة اللامعة تحت شمس ناصعة مثل جبين الحق ترسل من عليائها أشعة تضرب كل جبين بألسنة من لهب حتى يدمع عرقا في أرض لا تدمع فيها أعين الرجال وقد جفت فيها غدد الدمع وضويت من ذات اللهب.
وأراك أيها الشيخ الجليل تهز رأسك على وقع أصوات أنا لا أسمعها ولكني أحس بها تطرق أذنك
رغاء الإبل وصوت الحادي يشدو على رأس القافلة
وصهيل الخيل وصوت الشاعر يعلو بمفاخر القبيلة
وأراك تبتسم لصوت عنترة العبسي يدغدغ فيك مشاعر الشجاعة والبطولة فتتهلل أسارير وجهك وكأني بتجاعيد وجهك تتلاشى حتى ترتسم على وجهك ملامح الشباب والقوة غير أن ذلك ما يلبث أن يختفي لتعود تجاعيد وجهك وتنسرب فيها حكاية عنترة العبسي مع حكايا إمرؤ القيس وحكايا أخرى كثيرة لزمن مضى سميناه عصر الجاهلية.
غير أن مخزون هذه التجاعيد من الحكايا لا ينتهي وأراك تكثر من لمس بعض التجاعيد التي تعلو جبينك والتي تظهر على صورة تخالف صورة غيرها من التجاعيد أراك تكثر من لمسها وتحنو عليه بأصابعك بلمسات هي كالهمسات المفعمة بالمحبة والإعتزاز والافتخار وأذكر أني قد سألتك يوما في لحظة من لحظات تلك اللمسات الحانية المشحونة بالإعتزاز عن سر إعتزازك بهذه التجاعيد التي يخيل إلي أحيانا أنها تشع نورا فكان جوابك أنك تحس كلما لامستها أنك تلامس شغاف قلبك وأنك كلما لمستها سطعت في ذاكرتك صورة نور يولد من رحم غار جالت في أرجائه أولى كلمات الوحي المبارك {إقرأ باسم ربك} لتتوالى بعد ذلك نورا على نور آيات وسور بلغت الحد الأعلى من البيان والفصاحة وأشهد أنني ما رأيت عينيك تدمعان ونظرك يموج بالفرح والوعي بأكثر مما رأيت ذلك وأنت تتلو بعضا من آيات الكتاب الكريم ثم تشرح لي بصوت لا أسمعه من فمك بل من عمق التاريخ بعض أسرار البلاغة في الآيات التي تلوت.
ولقد طالت جلساتي معك أيها الشيخ الجليل وتعددت وحملت ذاكرتي من تلك الجلسات صورا وأحاسيس يطفو الكثير منها فوق السطح دائما كلما خلوت بنفسي أو كلما لمحت وجهك المحمل بأثقال العصور وها هي الآن تحمل إلى وعيي ذكرى تلك الجلسة التي جمعت بيننا في يوم شديد الحر عصرت حرارته المرتفعة بعض قطرات العرق على جبينك المرفوع شموخا وعزة حيث ظلت عيناي تتابعان إنسياب قطرات العرق على صفحة وجهك وتتابعان في ذلك الإنسياب عصورا من المجد عاشتها لغتنا العربية فرأيت في لحظات من اللحظات النادرة التي تجتمع فيها رؤية العين مع رؤيا البصيرة صور مدن مثل بغداد ودمشق والقاهرة وعواصم الأندلس الضائع رؤية مفصلة تتضح فيها اليبوت والقصور والشوارع والميادين وتظهر فيها الوجوه بملامحها المميزة والمعبرة كل ذلك رأيته في قطرات العرق المنسابة تلك حتى إني حاورت فيها أبا العتاهية والبحتري وابن طفيل والتوحيدي وابن زيدون والطاهر بن عاشور والعقاد ومحمود شاكر كل ذلك في جلسة واحدة وما أغنى الجلسات معك يا شيخي الجليل.
خمسة وسبعون عاما هي عمرك المكتوب على صفحات الورق إذن وعصور ودهور وصحارى ومدن هي عمرك المكتوب على صفحة التاريخ هذا العمر الذي لو قيس لقيس بأعمار كل أشجار النخيل التي إنتصبت شامخة على كل أرض لهج أهلها بلسان العرب وأنا الآن أدرك سر محبتك البالغة لهه الشجرة المباركة فهي كاتمة أسرارك وحاملة أخبارك وشاهد عمرك.
واعذرني أيها الشيخ الجليل لو طالت مجالستي معك فأنا أحس وكأن عمري هو أيضا يمتد ليمر على روؤس النخيل في أرض العرب مذ إرتفعت أول نخلة وشمخت ثم آتت أكلها كل حين أعذرني يا شيخي الجليل لأني لما لم أجد في زمني ما يملأ فراغ نفسي شرعت أبوبها وكواها على مجد أمتصه من بريق عينيك أنسج به لنفسي رداء عز وإنتماء وكرامة