وقد يُغيِّرون النظام. وهنا أدت العقلية النفعية ذاتها في الغرب إلى ابتكار فكرة ترقيع النظام الرأسمالي لإطالة عمره، بأحكام مثل: الحد الأدنى للأجر، وأجر التقاعد للموظفين والإكراميات للعمال، وتعليم أبناء الفقراء مجاناً، وغيرها مما يختلف مقداره وشكله بين دول الرأسمالية المختلفة.
والتأمين الصحي ليس إلاّ واحدًا من هذه الأحكام الترقيعية، وقد تطوّر إلى الشكل الذي نعرفه اليوم من أواسط إلى أواخر القرن العشرين، أي في فترة وجود الشيوعية وخوف العالم الغربي من نشر أفكارها بإثارة العمال في الغرب ضد الرأسماليين.
والتأمين الصحي وسيلة لتغطية تكاليف الرعاية الصحية. وتقوم الحكومات بتوفير الحماية الصحية الاجتماعية لسكانها لضمان استفادتهم من الخدمات الصحية- عن طريق نظام تأمين بتكلفة معينة يستطيع المواطن دفعها أو برنامج تموّله الحكومة ويمكّن أولئك السكان من الحصول على الخدمات الصحية الأساسية دون التعرّض لمخاطر الإملاق أو ضائقة مالية حادة.
وتختلف النُهج المتّبعة إزاء الحماية الصحية الاجتماعية باختلاف البلدان، غير أنّ القاسم المشترك بين جميع البلدان في هذا المجال هو نظام يُدعى نظام تجميع المخاطر. ويمكّن ذلك النظام مجموعة واسعة من الأشخاص من تقاسم مخاطر الإصابة بالمرض واللجوء إلى رعاية مكلّفة. ويعني ذلك أنّه يتم جمع الأموال المخصّصة للرعاية الصحية عن طريق الدفع المسبق، وإدارتها بطريقة تضمن تحمّل جميع أفراد تلك الجماعة -وليس الدولة- تكاليف الرعاية الصحية في حال الإصابة بالمرض، بدلاً من أن يتحمّل كل فرد تلك التكاليف على حدة وبدلاً من أن تتحملها الدولة.
وفي ذلك النظام يواصل الأشخاص الأصحاء، الذين لا يحتاجون إلاّ إلى رعاية صحية محدودة، تمويل الأشخاص المرضى الذين يعتمدون بشكل أكبر على الموارد الصحية المتاحة.
ويمكن إدارة نظام تجميع المخاطر بطريقتين اثنتين هما:
1 - التمويل الصحي القائم على الضرائب: تستخدم الحكومة الدخل المتأتي من الضرائب العامة لتمويل خدمات الرعاية الصحية. ويحقّ لجميع الناس الاستفادة من تلك الخدمات؛ وبالتالي تكون التغطية شاملة.
2 - التأمين الصحي الاجتماعي: تُجمع مساهمات الرعاية الصحية من العمال والأشخاص الذين يعملون لحسابهم والمؤسسات والحكومة. ويتم تجميع تلك الأموال في صندوق أو صناديق للتأمين الصحي الاجتماعي. ولا يمكن تحقيق التغطية الشاملة عن طريق هذا النظام التمويلي إلاّ إذا قام كل من السكان بدفع ما عليه وإذا تم تحديد مساهمة كل فرد وفق قدرته على الدفع. وعليه تلجأ معظم نُظم التأمين الصحي الاجتماعي إلى مصادر تمويلية مختلفة، وتقوم الحكومة بدفع مساهمات الأشخاص غير القادرين على سدادها.
وهناك فئة من السكان في بعض البلدان تستفيد من تغطية مباشرة من خلال الضرائب العامة، بينما على الفئة الثانية دفع مساهمات إلى أحد صناديق التأمين الصحي الاجتماعي أو غير ذلك من أشكال التأمين الصحي، التي قد تكون مؤسسات خاصة.
هذا هو التأمين الصحي باختصار، ورغم أن هذا الحكم جاء لترقيع النظام الرأسمالي، إلا أنه في حقيقته ظلم فضلاً عن أنه يطيل عمر الرأسمالية ويُثبّت جورها. فلماذا يُعالج الفقراء مجانًا مثلا ولا يعالج باقي الناس مجانًا؟ علمًا أن الدولة مسؤولة عن كفاية الأمة كلها فرداً فرداً فيما لا بد منه كالتطبيب والتعليم والدفاع وحفظ الأمن، وذلك للفقير والغني وللضعيف والقوي سواء بسواء. ولكن بما أن الدولة في النظام الرأسمالي غير ملزمة برعاية شؤون الناس، ابتدعت هذا النظام لكي تمتص به غضب السكان من عدم الاهتمام بشؤونهم الصحية وخصوصًا من لا يستطيع منهم الحصول عليها بنفسه.
كما أن المُؤَمَّن قد لا يتعالج بمقدار ما اقتطع من أجره أو ما دفعه، وطبعاً هو لا يُعاد إليه، وهذا الجزء من أُجْرة المُقتطَعِ منه الذي لا يعاد إليه يكون مظلمة!
وقد يُصاب المُؤَمَّن بمرض نادر أو يحتاج إلى علاج خاص، ولا يوفره له برنامج التأمين بحجة أن الاتفاق الموقع لا يشمل هذه الخدمات، وكأن على الإنسان أن يطلع الغيب ليعرف أي خدمة سيحتاج وأيها لن يحتاج مع مرّ الزمن!!! وبذلك يكون قد دفع التأمين طوال حياته، حتى إذا مرض واحتاجه لم يجده. فهدف شركات التأمين ليس رعاية شؤون الناس وعلاجهم، بل هو الربح وتحقيق المنفعة المادية.
¥