تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاء المثل في كتاب الله لبيان فضل العاقل الذي يدبر أموره بحكمة وعقل وتفكير سليم، ويعبدالله، ويعمل عملا صالحا، على من لا يتصف بتلك الصفات الإيجابية، قال تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكاً لا يقدر على شيء، ومن رزقناه منا رزقا حسنا، فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون· وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو كلٌ على مولاه أينما يوجه لا يأت بخير، هي يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} النحل- 75 - 76·

المثلان في الآيتين لهما أثر بين في المجتمع، فهما يكشفان بجلاء ظاهرة اجتماعية، لا تخفى على الإنسان الجاهلي المخاطب بهذين المثلين، إنه يعرف أن العبد في مجتمعه لا يتصرف مثل الحر في كل أموره، وكذلك فضل العاقل الذي يأمر بالعدل والإحسان، وهو مستقيم في عقيدته وسلوكه وعمله على الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير في أي عمل قام به، هذان المثلان يوجهان المخاطب إلى اختيار أفضل السبل التي تقربه من الله بالإيمان الصادق، والعبادة الخالصة لجلاله، والسلوك القويم الذي يرضي عنه الله ورسوله، ويبينان الفرق بين من يعبد أصناما لا تنفع ولا تضر، وبين من يعبد الله الخالق القادر الواهب، هذه المقارنة بمثل عمل يشاهد الإنسان أثره في المجتمع تظهر فضل المؤمن على الكافر بتقواه وعبادته وصلاحه، إذ كل أعمال المؤمن تكون خالصة لوجه الله وهو بذلك يبتعد عن كل ما يؤذي به نفسه ومجتمعه، ويكون رباطه بالله وحده وهذه ألطاف من الله يفيضها على عباده الصالحين، لأنها تحررهم من العبودية لغير الله، وتجعل عملهم متواصلاً، وفي هذا شرف للإنسان، وتكريم له على سائر المخلوقات، وإذا كان المثلان قد اقترنا ببيان ميزة الحر على العبد، والعاقل على الأبكم، فالإنسان يميل بطبعه إلى الحرية ويعشقها، ويكره الذل والاستعباد، ويحب البليغ الفصيح الذي يكون قادرا على إقناع الآخرين بالحجة والبرهان، إن مثل هذا الفرد يكون تأثيره ظاهرا في المجتمع، فكم من كلمة طيبة بليغة، وخطبة جامعة محكمة، قد غيرت سلوك أفراد وجماعات، ودفعتهم نحو الفضائل والمثل العليا، بينما الأبكم يفقد هذه الخصائص الإيجابية في التأثر والتأثير· ولذلك ذكر الله أن أمثال القرآن يدرك مراميها وأثرها العقلاء، قال عز من قائل: {وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون} العنكبوت - 43·

وجاءت الأمثال في كتاب الله لبيان فضل من يعبد إلها واحدا يقوم بما كلفه به، ويرجو ثوابه، على من يعدد الآلهة فلا يدري أيها يستقر على عبادته، ويدعوه ليستجيب له، فقال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون، ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} الزمر-28·

ومثل من يتمادى في الضلال والكفر والعصيان بالأعمى والأصم، ومن يتبع الهدى بالبصير والسميع والفرق بينهما لا يخفي على أحد، قال تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان مثلا، أفلا تذكرون· هود -24·

كما نجد الغاية من ضرب الأمثال في القرآن الكريم زيادة الإفهام والتوضيح والتذكير، فيأتي المثل لتصوير المعنوي بالمحسوس والمشهد بالغائب، فيكون وقعه بذلك أمكن في النفوس، وأشد علقة بالقلوب، وهذا من شأنه ان يبعد الحيرة والشكل عن المترددين وضعاف الإرادة قال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كملة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفروعها في السماء، توتي أكلها كل حين بأذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} إبراهيم- 26 - 28·

هذا المثل نموذج في البلاغة الرفيعة، والبيان السامي، والإعجاز المطلق الذي تميزت به الآيات البينات، والغاية منه هي هداية الناس للتقوى، وتثبيت الإيمان في نفوسهم حيث تبدو الكلمة الطيبة في هذا المثل المعجز، وهي كلمة التوحيد والإيمان والاستغفار والتوبة والعمل الصالح كشجرة مخضرة يانعة، وارفة الظلال، زاهية الأغصان، ناضجة الثمار، ممتدة في السماء، تعطي ثمارا طيبة في كل حين· وهذا كناية عن ثبات الإيمان، لأنه يستمد قوته من الحق سبحانه وتعالى· أما الكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك والضلال، وكل ما يؤذي الناس في عقيدتهم الصحيحة، وفي شريعة العدل، وفي حياتهم الطيبة، فهي كشجرة خبيثة لا قرار لها ولاثمار ولاظلال ولا أغصان سوى الشوك الذي يؤذي، ولذلك فهي سهلة الاجتثات مثل الشرك والكفر والضلال لا يثبت ولا يستمر ولا يستند إلى الحق، يتهاوى في أي لحظة، ولم يتوهم المشركون والضالون انهم أقوياء، بينما كلمة التوحيد تخاطب العقل السليم، والنفس اليقظة، والوجدان الواعي، فلا يستطيع أحد مهما أوتى من قوة وسلطان ان يحرفها، لأنها الحق من عند الله··· هكذا كان يضرب الأمثال في كتاب الله من أجل الرجوع إلى كلمة التوحيد التي هي الحق من الله {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} التحريم -10، وفي الذين ثبتوا على مبدأ التوحيد، {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون} التحريم -11، {ومريم ابنة عمران} التحريم -12·

لكن الذين يصرون على الكفر والعصيان لا تنفع فيهم النذر والأمثال، لأن قلوبهم غلف، وأفئدتهم هواء، قال تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} >الإسراء -89·

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير