تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا كان الأمر هكذا .. فكيف استباح المحمود نفي إنسانيتنا، وكيفَ أسلمنا للحتميات، ونقلنا ـ ونقل نفسه معنا ـ إلى عالم الأشياء، حين حكم وقضى بأن الليبرالية قدرنا المحتوم الذي لا يستطيع أحدٌ منا أن يزورَّ عنه، فضلاً عن أن يحاربه؟!

هذه الخطابيات المتناقضة تؤكد قناعةً لديَّ ولدى كثيرين غيري، خلاصتها أن المحمود لا علاقة له بالليبرالية من قريبٍ ولا من بعيدٍ، إلا علاقة المديح الإنشائي. ومن نسبه إلى الليبرالية فقد حمَّله ما لا يطيق. فالمسألة كلها لا تتعدى رغبةً محمومةً في المشاكسة والمعاكسة لا أكثر. ومثل هذه الرغبة لا يمكن بحالٍ أن ينتج عنها فكرةٌ متزنةٌ أو رؤيةٌ ناضجةٌ. لذا فإن التوازن والنضج آخر ما يمكن أن تجده في مقالة يكتبها محمد المحمود.

بين المحمود و برتراند رِسْل

كان برتراند رِسْل يقول: “إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: (هذا حق) .. بل يقول: (يبدو لي أن هذا الرأي أصحُّ من غيره) ”. ولربما لو مُدَّ في عمر رِسْل، لأعاد النظر في مقولته تلك. فما من أحدٍ يتنفس الهواء هذه الأيام يمكن أن ينافس المحمود في عبارات الجزم والحسم واليقين والتحقير والتجهيل لمخالف رأيه. فلابدَّ أن يكون أحد الاثنين قاصراً في فهمه للفلسفة الليبرالية: إما (برتراند رِسْل)، أو (محمد المحمود)!. ومع قناعتي بأن الرؤية الليبرالية تصبح قيمةً أرضيةً منحطةً إذا ما قورنت بالمفاهيم الاجتماعية والقيم السامية لشريعة الإسلام، إلا أن جميع ما يكتبه المحمود لا يرتقي لمستواها بأيِّ حالٍ، حتى وإن أجهد قلمه وأهلك نفسه في سبيل الالتصاق بها، وتنصيب نفسه محامياً عنها. فمن الواضح أنه كلما أمعن في الدفاع عنها قدَّم المزيد من البراهين على براءتها منه.

أقول هذا وأنا أعلم أن قلم المحمود يطيش حين يسمع من يتحدث ـ مجرَّد حديث ـ عن وجود تعارض بين شريعة الإسلام، وبين الرؤية الليبرالية. فقد رأيته يقول في مقالة له بعنوان (متطرفون في الزمن الليبرالي): إن (مسألة التضاد بين الليبرالية والإسلام، لم يعُد يتحدث عنها إلا الأغبياء، من سدنة خطاب الجهل). حين قرأتُ هذا الكلام تخيَّلت المحمود جالساً بين يدي فولتير يحاول إقناعه بأنه (ليبرالي أصيل) يؤمن أن الدين يجب أن يكون حاكماً لأنظمة الدولة وقوانينها، فضلاً عن العلاقات الاجتماعية داخلها! فلو سمع فولتير هذا الكلام ربما يكون أكثر تهذيباً، فلا يتحدث عن (الغباء وسدانة الجهل)، لكنه بالتأكيد سوف يضرب كفاً بكفٍّ، وسيدرك أن (التنوير) الذي جاهد من أجله لم تصل صورته إلى الآن إلى رأس شاعر الليبرالية محمد المحمود. فمن الواضح أن صاحبنا يدافع عن مبدأ لا يملك الإدراك الكافي لأبعاده الحقيقية، ثم يزيد في تعقيد الأمر حين يمارس التجهيل والتسفيه لمن يحاول شرح هذه الأبعاد الخافية عنه أوتقريبها إليه.

فمما أذكره هنا أن المحمود كتب يوماً مقالةً عنوانها: (المتطرفون وصناعة خطاب الجهل) شنَّ فيها هجوماً (خطابياً) على برنامج عُرض في قناة فضائية عن الفلسفة (الليبرالية). فكان مما أغضب المحمود قول ضيف البرنامج: إن الفلسفة الليبرالية تتسم بالغموض وعدم الوضوح لدرجة أن أصحابها عاجزون عن تحديد مفهومها بصورة جليةٍ. ومع أن غموض الفكرة الليبرالية مما يقرُّ به منظروها قبل خصومها، إلا أن المحمود فزع ثانيةً لعبارات التجهيل والتسفيه، فكتب مقالةً كرَّر فيها مفردة (الجهل) 45 مرةً! فضلاً عن عبارات التطرف وما يتفرع عنها. ولمزيد من التفخيم والتضخيم، ذكر المحمود أنه لا يمكن لأحدٍ أن يلمس الليبرالية حتى يقرأ المجلدات العشرة من كتاب (قصة الحضارة) كاملةً!

وحين يتابع القارئ هجوم المحمود ليرى أين تنتهي فكرته يجده في النهاية يعلن بوضوحٍ بأن الفكرة الليبرالية لا يمكن أن تُحَدَّ، لأنها تتعدَّد بتعدُّد أفرادها!

إذن كان كلام ضيف القناة الفضائية صحيحاً، فلأيِّ معنى كانت غضبة المحمود؟! فهاهو في النهاية يعود ويقرُّ أن الليبرالية فكرة عائمة تتعدد مدلولاتها بهذه الصورة الفوضوية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير