تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

غير أن الذي يطول منه العجب أن المحمود مع تقريره لهذا التعدُّد والاتساع لمفهوم الليبرالية، ومع تقريره أنها رؤية تتعدَّد معانيها بتعدُّد أفرادها، فإنه ـ في الوقت نفسه ـ يرى من الغباء والجهل أن يتصوَّر أحدٌ وجودَ تعارض بين الإسلام وبين أيِّ واحدةٍ من هذه (الليبراليات) غير المحدودة!

لأجل هذا الموقف وأمثاله أقول: إن من الصعب أن تجد للنضج والاتزان أدنى أثر في كتابات المحمود الارتجالية. والبحث في إثبات أو نفي التعارض بين شريعة الإسلام وبين القيم الليبرالية يحتاج لأمرين اثنين: رؤية واضحة لأبعاد الفكرة الليبرالية، مع دراية وفهم لأصول وقواعد وآداب شريعة الإسلام. والمحمود يعاني فقراً مدقعاً في الجانبين، علاوةً على الحدة والنزق الظاهرين في تناوله للمسائل. فإذا انضمَّ لذلك كله قطيعةٌ كاملةٌ مع النَّص الشرعي، فحينئذٍ يستحكم البلاء، وتضعف أمام المحمود فرص الخروج من الدائرة التي حاصر نفسه داخلها دون أن يشعر. والمتصفِّح لمقالات المحمود من الممكن أن يمرَّ على إنتاجه على مدى السَّنة والسنتين من غير أن يجد أثراً لنصٍّ قرآنيٍّ أو سنةٍ نبويةٍ. مع أن جلَّ ما يكتبه يتعلق بأحكامٍ شرعيةٍ كبرى من المفترض أن تستند على النصِّ الشرعيِّ قبل غيره. بل إني رأيت المحمود في مقالةٍ له عنوانها: (ما بعد الأيديولوجيا .. العقد الاجتماعي)، رأيته يقول: (ماهية الحوار ـ من حيث هو حوار (!) ـ يفترض فيه أن تغيب النصوص التي ينطلق من خلالها المحاور)!!. فمثل هذا الكلام من المحمود يوضِّح أن مشكلته ليست مع سلفية، ولا مع صحوة، أو تراث فقهي، بل معضلته الكبرى مع (النصِّ الشرعيِّ) نفسه. لذا تراه مرةً يتحدث عن (آليات حديثه) لإعادة قراءة النَّص من أجل عصرنة الفكر الديني، ومرةً ثانيةً تراه يعلن أن النَّص من المفترض ألا يكون له مكان في الحوار، (من حيث هو حوار!). فالمشكلة التي يعانيها المحمود مع النص الشرعي واضحةٌ مهما حاول سترها.

وبالعودة لبحث (المآلات) الذي تهجم عليه المحمود، نجد كاتبه يرصد هذه الظاهرة ويبرزها حين يقول: (تأمل في نُفرة كثيرٍ من غلاة المدنية من النصوص الدينية وابتهاجهم بذكر الأعلام الغربية وقارنها بقوله تعالى في سورة الزمر: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة. وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون). وقوله في سورة الحج: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر)). اهـ.

العقلانية والعقل

نرجع ـ ثانيةً ـ لتلك الحلقة الفضائية عن الليبرالية، فنجد ضيفها يذكر من عيوب الليبرالية كونها (فلسفةً عقلانيةً). وعند هذه النقطة انتصب المحمود مغضباً وكتب يقول: (هذه التهمة من عجائب التيار المتطرف الذي لا يعرف حتى كيف يدين خصومه. فكون الليبرالية عقلانية، يعني أنها مع العقل. وتيار التطرف تيار معادٍ للعقل). حين قرأتُ هذا الكلام شككتُ كثيراً إن كان المحمود قرأ بالفعل كتاب (قصة الحضارة) الذي نصحنا به آنفاً. فلو أنه مرَّ عليه مروراً عابراً لما قال مثل هذا الكلام، ولما فهم كلام ضيف الحلقة هذا الفهم الحرفي العجيب.

حين تعاب نظرية ما بأنها (عقلانية)، فليس معنى ذلك أنها (مع العقل) كما توهم شاعر (الليبرالية). بل المقصود بذلك تصنيفها ضمن أحد مناهج التفكير الفلسفي الغربي الذي لا يؤمن بغير العقل مصدراً للمعرفة. فالدين بالتالي لا يصلح طريقاً أو مصدراً للمعارف، ومن هنا دخل العيب على المناهج العقلانية. ولو تصفَّح المحمود كتابه المفضَّل (قصة الحضارة) فسيجد حديثاً كثيراً مكرَّراً عن كتاب شهيرٍ عنوانه: (نقد العقل الخالص) للألماني عمانوئيل كانت، وهو الكتاب الذي احتفل الألمان قريباً بمرور (220) سنة على تأليفه. وسيجد المحمود ـ أيضاً ـ في (قصة الحضارة) عرضاً واضحاً لموقف (روسو) الناقد لعقلانية حركة التنوير، بعدما توصل إلى أن العقل عاجزٌ عن تعليم الناس الفضائل. فليرتجل المحمود ـ إذن ـ قصيدة يهجو بها (كانت) و (روسو)، وليعطهما نصيبهما من الخمسة وأربعين تجهيلاً، حتى يفهموا مناهج الفلسفة الغربية على أصولها في المرات القادمة.

مقارنة مع ليبرالية فولتير

حين أورد مثل هذه الشواهد، فلست أسعى من خلالها للتشكيك في ليبرالية المحمود، لأن هذه الليبرالية لا وجود لها من الأساس، فلا أجدني بحاجة للتشكيك فيها. غير أني أريد أن أقول: إن المنتسبين لليبرالية نوعان: فهناك ليبرالي (حقيقي)، يقابله ليبرالي (مجازي). فالأول قانع برأيه، مدركٌ لأبعاده، وملتزمٌ لوازمه. أما الثاني فهو في الغالب شخصية تعيش على مشاكسة الآخرين، وتجد لذةً في الخصومة وافتعال المعارك الكلامية العابثة. ومتى ألصقت تلك الشخصية نفسها بالليبرالية، فإن وظيفتها غالباً ما تكون محصورة في القيام بدور شاعر البلاط الليبرالي، الذي يمتهن نظم القصائد في مدح (الليبرالية)، وهجاء معارضيها فقط لا غير. ولو وجد الليبرالي (المجازي) فكرةً غير الليبرالية تساعده على المشاكسة والمعاكسة بصورة أفضل لبادر بالانتساب لها، والالتصاق بها، ونظم القصائد الزائفة في ذكر مناقبها.

* باحث وأكاديمي بجامعة الامام محمد بن سعود

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير