والأحاديث التي صحَّحها علماؤنا رحمهم الله ليس فيها ما يرفضه العقل أو يُحيله لأنها إما أن تتعلَّق بأمور العقيدة، وهذه يجب أن تتَّفق مع القرآن، ونحن نقطع بأنه ليس في القرآن شيءٌ يحكم العقل بفساده أو بطلانه أو استحالته، وإما أن تتعلَّق بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وآداب غيرها، وليس في حديثٍ من هذه الأحاديث التي صحَّحها علماؤنا ما يرفضه العقل أو يحكم باستحالته، وإما أن تكون أخباراً عن الأمم الماضية، أو أخباراً عن عالم الغيب مما لا يقع تحت النظر كشؤون السموات والحشر والجنة والنار، وهذه ليس فيها ما يحكم العقل ببطلانه، وقد يكون فيها ما لا يدركه العقل فيستغربه.
فإذا جاءت هذه الأحاديث من طريقٍ ثابتٍ يفيد القطع فيجب اعتقادها، وإن جاءت عن طريقٍ يفيد غلبة الظن فليس من شأن المسلم أن يبادر بتكذيبها.
وبهذا نرى أن فريقا كبيراً من الناس لا يفرِّقون بين ما يرفضه العقل وبين ما يستغربه، فيساوون بينهما في سرعة الإنكار والتكذيب، مع أن حكم العقل فيما يرفضه ناشئٌ من استحالته، وحكم العقل فيما يستغربه ناشئٌ من عدم القدرة على تصوُّره، وفرقٌ كبير بين ما يستحيل وبين ما لا يُدرك.
على أننا نرى من الاستقراء التاريخي، وتتبع التطور العلمي والفكري أن كثيراً مما كان غامضاً على العقول بالأمس أصبح اليوم مفهوماً واضحاً، بل إن كثيرا مما كان يُعتبر حقيقةً من الحقائق أصبح اليوم خرافةً من الخرافات، وما كان مستحيلاً بالأمس أصبح اليوم واقعاً، ولو أن إنساناً عاش في القرون الوسطى فكَّر فيما وصل إليه الإنسان الآن لعُدَّ من المجانين.
والذين ينادون بتحكيم العقل في صحة الحديث أو كذبه لا نراهم يفرِّقون بين المستحيل وبين المستغرب، فيبادرون إلى تكذيب كل ما يبدو غريبا في عقولهم، وهذا تهورٌ طائش ناتجٌ من اغترارهم بعقولهم من جهة، ومن اغترارهم بسلطان العقل ومدى صحة حكمه فيما لا يقع تحت سلطانه من جهةٍ أخرى (2).
ومن أمثلة ما أنكره البعض لادِّعاء مخالفته للعقل
حديث أبي هريرة ? أن رسول الله r قال "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة" (3).
فقد استغرب أبورية في كتابه: "أضواء على السنة المحمدية" هذا الحديث بل وادَّعى ضمنًا كذبه، ولنا أن نسأل ما وجه الغرابة في هذا الحديث؟ ألأنه ذكر أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة؟ أليست الجنة من أمور الغيب؟ هل استطاع أحدٌ أن يعرف ما فيها؟ ونحن لا نعرف عنها إلا ما عرفنا الله ? ورسوله r إياه؟ أليس في عالم الشهادة ما استطاع العلم أن يكشف من عظمته واتِّساعه ما لا يكاد يتصوره العقل؟ ألا يحدِّثنا علماء الفلك الآن عن كبر حجم الشمس بالنسبة إلى أرضنا أكثر من مليون مرة؟ والشمس إحدى ملايين الشموس التي تكبر شمسنا هذه بملايين المرات، ألا يحدِّثنا هؤلاء العلماء عن شموسٍ كثيرة في هذا الفضاء الرحب لم يصل إلى الأرض نورها حتى الآن منذ مليون أو أكثر من السنوات الضوئية؟ أيُصدِّق العقل مثل هذه الأمور العلمية التي يكشف عنها العلماء في هذا العصر؟ ولولا أنها مما يذيعه أولئك العلماء ويثبتونه بالأدلة ما أمكن للعقل أن يصدق بها.
فكيف يصدِّق البعض أن يعرف العلماء سعة هذا الكون العجيب إلى حدٍّ لا يصل إليه خيال أكبر عقلٍ إنساني على وجه الأرض؟ ثم لا يصدِّق أن الرسول r - المتصل بوحي السماء والذي يستمد علمه من علم الله ? خالق هذا الكون العجيب – يقول إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة؟
وما هي هذه السنون المائة بجانب هذه الملايين من السنين الضوئية؟
ليست المشكلة مع أبي رية وأمثاله مشكلة استعمال العقل أو تركه، ولا هي مشكلة تأليه العقل المخلوق، أو عبوديته للخالق؟ إن هؤلاء الأحرار، العباقرة في الشريعة يريدون أن يؤلِّهوا عقولهم معها، ويتخلَّوا عن عقولهم مع غيرها؟
وخذ لذلك مثالاً آخر مما استغربه عقل البعض ولم يستطع استيعابه:
¥