وعلَّم النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم أصحابه ذلك وربَّاهم عليه، فحين همُّوا بالأعرابي الذي بال في المسجد قال لهم: "لا تزرموه – أي لا تقطعوا عليه بولته – وصُبُّوا عليه ذَنوباً من ماء فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين" (11).
ولما بعث أبا موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ومعاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى اليمن زوَّدهما بوصيةٍ جامعةٍ مختصرة قال فيها: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (12).
فهذه هي شريعة الإسلام: تيسيرٌ لا تعسير فيه، وتبشيرٌ لا تنفير معه، وتطاوعٌ لا اختلاف فيه، وما قاله النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم لمعاذ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قاله تعليماً للأمة كلها فيما رواه عنه أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: "يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا" (13).
فأين هذه المعاني من بعض الذين يبحثون عن كل صعبٍ وعسير ليُقدِّموه للناس على أنه الإسلام، وساحة الإسلام بريئة منه؟ والغالب أن هذا العسر الصادر من بعض من يدَّعي العلم إنما هو سلوكٌ صادرٌ من النفس الأمَّارة بالسوء قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) (14).
وهو استدراجٌ من الشيطان لأن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم علَّمنا: "أن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى" (15)، ولذلك كانت العصمة من ذلك هي: الاقتداء برسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم في صغير الأمر وكبيره، فما خُيِّر النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
من ذلك كله نستخلص قاعدةً هامة هي: وجوب الوقوف عند حدِّ الشارع من عزيمةٍ ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له.
والمجتمع الإسلامي الأول كانت الصفة المميِّزة له هذا التيسير على الناس حتى أصبح سلوكهم في العبادات والمعاملات مُيَسَّراً.
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم أنه قال: "كان تاجرٌ يُداين الناس فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" (16).
وكانوا يلومون على المشدِّدين ويلفتون أنظارهم إلى سماحة الإسلام ويسره فعن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه كان يشدَّد في البول ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه.
فقال حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ليته أمسك أتى رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم سباطة قوم فبال قائماً (17).
فأنت ترى قول حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ليته أمسك حين شعر بشدة أبي موسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقال: إن الأمر ليس هكذا فإن رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم كان يبول قائماً.
وفي رواية الإسماعيلي قال حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لوددت أن صاحبكم لا يُشدِّد هذا التشديد، واحتجَّ حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بهذا الحديث لأن البائل عن قيام قد يتعرَّض للرشاش، ولم يلتفت النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم إلى هذا الاحتمال فدلَّ على أن التشديد مخالفة للسنة.
وثاني هذه المعاول هي: محاولة أهل الباطل والهوى أن يُدْخِلوا علي الإسلام ما ليس منه من نافذة السنة المطهرة عن طريق الدسِّ والافتراء، ولكن حُفَّاظ الأمة سدُّوا عليهم هذه الأبواب، ووضعوا شروطاً دقيقة لقبول الحديث، فميَّزوا بين الأصيل والدخيل، وبين الحق والباطل، وبين المقبول من المردود.
فلم يقبلوا حديثاً بغير سند، ولم يقبلوا سنداً دون أن يعرفوا رواته واحداً واحدًا، فيعرفون عين الراوي، وحاله من مولده إلى وفاته، ومَن شيوخه، ومَن تلاميذه، ومَن رفاقه، وما مدى أمانته وتقواه، وما مدى حفظه وضبطه، وما مدى موافقته للثقات المشاهير، أو انفراده بالغرائب؟.
ولهذا قال محمد بن سيرين: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء (18).
وقال أيضاً: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل الحديث فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (19).
وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن إذا لم يكن معه سلاح فبأيِّ شيء يقاتل.
¥