واعلم أن النية محلها القلب، ولا يُنطَق بها إطلاقاً، لأن تتعبد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله تعالى عليم بمافي قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلبك وماضيك، وحاضرك.
ولهذا لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفظون بالنية، ولهذا فالنطق بها سراً أو جهراً بدعة ينهى عنها، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها سراًّ، وعللوا ذلك من أجل أن يطابق القلب اللسان.
يا سبحان الله، أين رسول الله عن هذا؟ لو كان هذا من شرع الرسول لفعله هو وبيَّنه للناس.
**لطيفة:
ويذكر أن عامياً من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر، وإلى جانبه رجل لا يعرف إلا الجهر بالنية، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر أربع ركعات لله تعالى خلفإمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبر قال له العامي: اصبر يا رجل بقي عليك التاريخ اليوم والشهر و السنة فتعجب الرجل.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: قول الملبِّي: لبيك اللهم عمرةً و حجاًّ ولبيك الله عمرةً وحجاًّ، أليس هذا نطقاً بالنية؟
فالجواب: لا، هذا إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لو لم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك.
ولهذا ليس من السنة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة أو أريد الحج فيسره،
لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولا دليل.
إذ أُنْكِرُ على من نطق بها ولكن بهدوء، بأن أقول: يا أخي هذه ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه فدعها.
فإذا قال: قالها فلان في كتابه الفلاني؟
قل: القول ما قاله الله ورسوله.
((وإنما لكل امرئٍ ما نوى))
هذه هي نية المعمول له، والناس يتفاوتون فيها الناس تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلان يصليان بينهما أبعد ما بين المشرق والمغرب أو مابين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التوحيد أو الفقه أو التفسير أو الحديث، أحدهما بعيد عن الجنة والثاني قريب منها، وهما يقرءان في كتاب واحد وعلى مدرس واحد.
فهذا رجل طلب الفقه من أجل أن يكون قاضياً، والقاضي له راتب رفيع ومرتبة رفيعة، والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالماً معلماً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فبينهما فرق عظيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم ((مَنْ طَلَبَ عِلْماً وَهُوَ مِمَّا يُريدُ إلاَّ أنْ ينَالَ عَرَضاً مِن الدُّنْيا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةْ)) (1) إذا أخلص النية لله عز وجل.
· ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالمهاجر فقال:
· ((فمن كانت هجرته)) الهجرة في اللغة مأخوذة من الهجر وهو الترك.
· وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم إسلامه إلا بالهجرة ومالايتم الواجب إلا به فهو واجب، كهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة أو من مكة إلى المدينة.
((ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ))
كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله،أي يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله، كقوله تعالى: وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 29]
إذا يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله وهذه إرادة حسنة.
ويريد رسوله الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنه، ونصرة دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي ((مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِليْهِ ذِرَاعاً)) (2)
فإذا أراد الله، فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.
وهنا مسألة: بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: أما شخصه فلا ولذلك لا يهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنه تحت الثرى،وأما الهجرة إلى سنته وشرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهذا مماجاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلد لنصرة شريعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والذود عنها. فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين،
والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته في حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.
نظير هذا قوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]
إلى الله دائماً، وإلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
فمن ذهب مثلاً من بلد إلى بلد ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوجها بأن خطبها وقالت: لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
((فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا))
بأن علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ماأراد. وإذا أراد الله عز وجل ألا يحصل على شيئ لم يحصل على شيئ.
انتهى الكلام على الحديث من حيث اللفظ والشرح.
http://www.jewelsuae.com/fwasel/fwasel1/jewelsfasel4.gif
:::
¥