الكتب فيها تُكْتب وتُنْسخ باليد، فهي إذنْ عصور المخطوطات، وقد رَاجَتْ فيها تجارة الكتب المخطوطة، إلا أن صعوبات كثيرة كانت تحدّ من وَفْرة النّسَخ للكتاب الواحد، كما أن عوامل أخرى، تتصل بالحروب والفتن، كانت تزيد من صعوبة الحصول على الكتب المخطوطة وانتشارها انتشاراً كبيراً، إلى أن ظهرت الطباعة، فيسّرتْ هذا كله.
وكان ظهور المطبعة في القرن العاشر الهجري (الخامس عشر ميلادي)، عندما اخترع (جوتنبرغ) عام (1468م) أول حروف طباعة، ثم انتشرت الطباعة في أوروبا بالحروف اللاتينية.
ولم تظهر حروف الطباعة العربية إلا يوم طبع كاهنٌ دومينيكي اسمه
(مارتان) عام (1486م) كتاباً بالحروف العربية بلغة غير عربية، بمدينة (مينز) وفي القرن السادس عشر طبع الإنجيل عام (1591م) بمطبعة آل مديتش، وذلك كله أيضاً في البلاد الأوروبية.
وعرفت الطباعة في تركيا، عندما أفتى شيخ الإسلام في تركيا بجواز
الطباعة في القرن الثامن عشر (1719م). وعرفت لبنان الطباعة عام (1760م) على يد عددٍ من الرهبان، ودخلت الطباعة دمشق مع جيش إبراهيم باشا، ودخلت مصر عند الحملة الفرنسية، وأسّس محمد علي أول مطبعة في بولاق عام (1819م)، ثم انتشرت في سائر الأقطار العربية.
وعندئذ بدأت المطبوعات تظهر إلى عالم الوجود، بصورة بطيئة، ثم
تطورت إلى ما نعرفه اليوم.
وقد بدأت عملية نشر التراث الإسلامي مطبوعاً في القرن الماضي، في الربع الأخير منه، وكان المستشرقون قبل ذلك أول من سبق إلى ذلك، فقاموا بنشر بعض المخطوطات العربية منذ وقت مبكر؛ ففي عام (1593م) نُشِر كتاب (النجاة) لابن سينا، وفي عام (1636م) نشر كتاب (عجائب المقدور) لابن عربشاه، نشر في ليدن، وكانت هذه النشرات السابقة بدايات للعمل، تعتمد على نسخة واحدة
للمخطوط، يعوزها كثير من الضبط وتقويم النص.
وفي مرحلة تالية لذلك، بدأ المستشرقون يضعون قواعد لتحقيق المخطوطات ونشرها، وكان مما نشره المستشرقون: (شرح ديوان المفضليات) لابن الأنباري، و (المنتخب من تاريخ حلب) لابن العديم، و (الفهرست) لابن النديم، و (معجم البلدان) لياقوت، و (الكتاب) لسيبويه، وغيرها من الكتب الأمهات [1].
ثم حذا علماء المسلمين المعاصرون حذو علماء الغرب في عملية تحقيق كتب التراث ونشرها، وتصحيحها تصحيحاً دقيقاً، ضمن قواعد وأصول للتحقيق العلمي. وقد تفاوتت الجهود في ذلك تفاوتاً كبيراً، مما يجعل النظر في إيجابيات هذا التحقيق وسلبياته أمراً ذا فائدة، بغية الإفادة من الصواب وتجنب الخطأ، وقياماً بواجب النصيحة لهذا الدين، وحفاظاً على هذا التراث الذي تعتزّ به الأمة، ولذلك نعقد فقرة سريعة لما نقصده بهذه الكلمة (التراث)، قبل النظر في الإيجابيات والسلبيات. وعلى الله قصد السبيل.
التراث والميراث والإرث، في اللغة العربية: هي أن يكون الشيءُ لقومٍ، ثم يصير إلى آخرين، بنسب أو سبب. وهذا يشمل كل ما ينتقل إلى الآخرين من مالٍ وعلمٍ ومجدٍ. وبهذه المعاني أيضاً جاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف.
وعلى هذا: فإن المراد بالتراث هو كل ما يتناقله الخلف عن السلف،
فيخلفونهم فيه خلافة جبرية، وقد يكون هذا التراث الموروث مادياً: مالاً أو غيره، وقد يكون غير مادي، كالعلم ونحوه.
ونعني بالتراث هنا على وجه الخصوص: هذه الثروة الكبيرة الثمينة الغالية، التي خلّفها لنا أسلافنا رحمهم الله في شتى مناحي العلوم الدينية في مؤلفاتهم وكتبهم التي عُنِيَتْ بالعلم الشرعي؛ كالتفسير والحديث وعلومهما، والفقه والأصول، والسيرة النبوية، وما يكون خادماً لهذه العلوم الشريفة، وبخاصة ما لا يزال منها في عالم المخطوطات، وتتجه العناية اليوم إلى نشره وإشاعته، أو تجديد ما سبق نشره منها [2].
¥