وأقسم لك بالله العظيم، كنت جالسًا مع واحدٍ، لو ذكرتُ اسمه الآن، لرموني بالنعال المُخَصفة، وكنا نحقق كتابا، وكَوْن واحد مثلي يفعل ذلك، فهذا دليل أيضًا على شدة سواد الليل، وجاء اسم راوٍ في المخطوط، إما أن يكون: عيينة، أو عتيبة، أو غنية، فعرضت الأمر عليه، من هو؟ فقال لي بلهجته العراقية: يامْعَوَّدْ ... استنقي واحد منهم.
ومعناها ـ بالمصري، وهي لهجتنا ـ: يا أخي، اكتب أي حاجة!!
ملحوظة للأمانة؛ قد يظن البعض أن هذا المذكور هو الدكتور بشار معروف، لأن الجميع يعلم الصداقة التي بيني وبينه، ولكن للحق؛ الدكتور بشار من أتقن من رأيتُ في حياتي، ومن أجل البحث عن كلمة، كنا نقضي أيامًا في البحث.
ونعود للقمر الذي غاب، فظهرنا لنحقق الكتب في هذا الليل.
ولكن هذه الأُمة أبى الله تعالى أن يموت فيها الخير، فظهرت في القرن الأخير اتجاهاتٌ في التحقيق، برز منها على سبيل المثال: أحمد شاكر، وعبد الرحمن المعلمي اليماني، ومحمد ناصر الدين الألباني، وشعيب الأرنؤوط، وبشار عواد معروف.
وأنا هنا لا أتحدث عن هؤلاء الذين يتنافسون على ألقاب مُحَدِّث مصر، أو علامة العصر، أو حجة الإسلام، والواحد منهم يقوم بتحقيق، أو بتلفيق ملزمة، أو ملزمتين، ثم يقول صبيانه: إليكم ترجمة محدث شمال إفريقية، ثم يذكر شيئًا من هراء، وينسى شيئًا واحدًا، هو أن يكتب في آخره: صلى الله عليه وسلم، أو ... (أستغفر الله العظيم).
بل إنني أتحدث عن الذين خدموا، وعملوا، وأخرجوا للناس ما كان ضائعا، وأصابوا، وأخطؤوا، وأصبح طالب العلم يشعر بالبُشرى، قبل أن يفتح كتابا على غلافه اسم واحد منهم.
ومن النكت الظراف: أن الشيخ أحمد شاكر كان يكتب في مقدمة كتبه: وكتب أحمد شاكر ـ بزيادة الواو على (كتب) ـ فظن الصبيان، والمحدثون الجدد، أن السِّرَّ في هذا الحرف، فاهتموا به، واقرأ أي مقدمة في هذا الظلام المظلم، سترى كل واحد منهم يكتب: وكتب أبو ... ، بمدينة ... ، بعد التراويح.
والأمر في التحقيق على النحو التالي:
دراسة المخطوطة قبل تحقيقها.
لأن هذه الدراسة سيترتب عليها أمور دقيقة جدًّا، وهي التي يطرحها أخي هيثم حمدان للنقاش، لأن الذي يقوم بالتحقيق هذه الأيام، كما ذكرتُ، تحت جنح الليل وجناحه، يجد ورقات، كتبت بخط قديم، فيقوم بالتحقيق، ويقول: في الأصل كذا، مع أن الذي في يده ورقات ليس لها أصل، ولا نَسَب، ويجب أن يبدأ التحقيق بما يلي:
ـ هل هذه المخطوطة بخط المؤلف؟.
ـ هل هي بخط أحد تلاميذه، وثبتت مقابلة المؤلف عليها؟.
ـ هل كتبت في عصر المؤلف؟
ـ أم وجدوها بعد ذلك، منسوخةً عن أصول سبقت؟
وكل درجة من هذه لها أسلوب في التحقيق يختلف عن الآخر.
1ـ إذا كانت بخط المؤلف، كما هو الحال في بعض أجزاء ((تهذيب الكمال))، وقد رأيت الدكتور بشار وهو يحققه، لدرجة أنه كان يستشير واحدا مثلي، مع قلة حيلتي، وضعف حالي، فهنا؛ لا يحل للمحقق، مهما كانت درجته أن يغير حرفا، ولو كان خطأً بَيِّنًا، بل عليه إثبات ما جاء في الأصل، ثم يكتب تعليقه في الحاشية.
2ـ إذا كان ناسخه واحد من تلاميذ المحقق، المعروفين بالدقة، كابن المهندس بالنسبة للمِزِّي، وقابل هذا التلميذ نسخته على الشيخ، فهي تعادل نسخة الشيخ.
3ـ إذا كانت منسوخة في عصر المؤلف، ولم يثبت اطلاع المؤلف عليها، فهذه تأتي في المرتبة الثالثة، ويمكن تغيير الخطأ في الأصل، ولكن بحذر شديد، لا يعرفه إلا من كابد مشقة التحقيق، وقطع في ذلك عمره طولا وعرضا، وليس لصبيان الملازم والورقات.
4ـ النسخ المتداولة، والمنسوخة عن منسوخ، عن منسوخ ... فهذه ليست أصولا، فقد تداولتها عشرات الأقلام، ومنها المتردية، والنطيحةُ، وما أكل السبُعُُ!!
ولا يكتب المحقق: وقع في الأصل إلا على سبيل المجاز، أيُّ أصل هذا؟!، إن هذا فرعُ فرعٍ.
وهنا أيضا يحتاج الأمر إلى محقق بارع، أمينٍ، خبيرٍ بأمور التحقيق.
وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام عَرَضٍ بعيدٍ، وسفرٍ إلى المجهول.
فيبدأ البحث في اتجاهين:
الأول: النسخ المُساعِدة.
والثاني: المؤلف؛ شيوخه وتلاميذه.
وأضرب مثالاً:
كنت أعمل عند الإخوة، (جماعة السيد أبي المعاطي)، وهم يحققون مسند الإمام أحمد، والذي صدر عن عالم الكتب، والذي سرقه حسان عبد المنان في طبعة الأفكار الدولية، ورأيت التالي:
ـ جميع النسخ الخطية التي وقفوا عليها، وكذلك التي وقف عليها محققوا طبعة الرسالة، وهناك تعاون مستمر بين الفريقين، لا يوجد فيها نسخة واحدة عتيقة، يعتمد عليها، وكلها نسخ متوسطة التاريخ، ناقصة.
ـ بدأ البحث عن النسخ المساعدة، مثل: غاية المقصد في زوائد المسند، وأطراف المسند، وجامع المسانيد والسنن ـ ولا أقصد المطبوع منه عن دار الكتب العلمية، لأن المطبوع يصلح فقط للدعاية، والإعلان، والديكور.
ـ ثم البحث عن الكتب التي نقل عنها أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، المسند، مثل مصنف عبد الرزاق وغيره، والكتب التي نقلت عن المسند.
ـ ثم الاستعانة بمصادر الحديث المتوفرة من جميع أنواع صنوف الحديث، للمقارنة، والتمحيص.
ثم يبدأ العمل.
إخواني؛ أصابني التعب من البداية، وازداد الآن، لأنني وأنا أكتب أشعر بالحياء من نفسي، لأنني أعرف قيمة الذين كتبوا في الحديث من قبل، وهذه مشكلتي، ففي الماضي كانوا ينتظرون أبا زُرعة الرازي، وحماد بن زيد، وسفيان الثوري، فيأتيهم البدر في الليلة البيضاء، لأنهم لم يعرفوا السواد والظلمات.
والآن، كما ترون، يكتب واحد مثلي، جاهل، كل بضاعته أنه يحسن تقليب الورق، وحتى هذه لا يحسنها، ويسير في ميدان كان فارسُه بالأمس الزهري، ومالك بن أنس.
فسامحوني، لو كنت أعلم أن واحدًا منهم سيعود، لدخلتُ دار أبي سفيان، وأنا آمِن.
والسلام عليكم
¥