ألم يكن الأوفق والأجدر بالإنصاف أن يقول: لا أعرف أو: لم أطلع، أو: لم يبلغني، كما هو الشأن في عبارات المنصفين من العلماء المحققين؟
ثم يا ترى: هل كان من المصادفات التي لا يؤمن كثير من متعالمي هذا الزمان أنها أقدار الله الجارية بحكمته وعلمه أن تأتي النسخة العاطفية من جبال الأناضول البعيدة عن الناشرين إلى القاهرة على يد هيئة دولية -إدارة ثقافة الجامعة العربية-، فقد طارت بتوفيق الله لحضرة السلفي الصالح خادم السنة وباذل ماله ونفسه في نشرها في أقطار العالم (الشيخ محمد نصيف) ليقوم بتصوير نسخة منها على نفقته، فجزاه الله خيراً؛ ليطلع الناس عليها؛ فيصح عندهم انخرام النسخة الباريسية التي نشرت بالقاهرة، ويقوم دليل جديد بفضل الشيخين ابن تيمية وابن القيم، وصحة نقلهما وبهت من كذبهما، وافترى عليهما؟
هل كان ذلك من المصادفات التي لا يعترف الناس لها بحكمة وتدبير؟ أما إن ذلك كان كرامة للباقلاني في تصحيح كتابه، ونفي خلف الوعد عنه فيما أحال عليه من باب التعديل والتجوير، وكرامة كذلك للإمامين الشيخين ابن تيمية وابن القيم، وصيانة لإمامتهما أن يمسها حقود (كالكوثري)، وتسويداً لوجه المفتري الكذاب الذي لم يتأدب بأدب العلماء لما أكل الحسد والحقد وبغض الدين وأهله قلبه، حتى أعماه عن الإنصاف والأدب، فهذا الذي نؤمن به).
(استدراك: كنا نشرنا هذه الرسالة تنبيهًا لأهل العلم على ثبوت النقص في النسخة المطبوعة من التمهيد بالقاهرة، ودللنا على صحة قولنا بما نقلناه من النسخة الكاملة والمصورة بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية، ثم قيض الله من قام بنشر كتاب التمهيد في بيروت على النسخة التي صورها معهد المخطوطات من إستنبول مضافاً إليها نسخة أخرى مخطوطة أيضاً في إحدى مكاتب إستنبول، وقد نوه ناشرها عن هذه النسخ، ودحض قول الذين قاموا بنشر النسخة بمصر دعواهم أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية نسبا إلى الباقلاني ما لم يقله؛ فكان تأييداً لنا فيما قلناه في رسالتنا هذه، والله الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه).
قلتُ: وهذا فصل العلو من " التمهيد " أنشره لعل أشعريًا يقرأه؛ فيتبين له ما كان عليه علماء الأشعرية الأوائل من إثبات للصفات؛ قبل أن يغزوهم التعطيل:
(باب هل الله في كل مكان
فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله! بل هو مستو على العرش، كما خبر في كتابه فقال:) الرحمن على العرش استوى (وقال تعالى:) إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (؛ وقال:) أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض (ولو كان في كل مكان، لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها –تعالى عن ذلك! - ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان؛ ولصح أن يُرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافة وتخطئة قائله.
فإن قالوا: أفليس قد قال الله عز وجل:) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله (فأخبر أنه في السماء وفي الأرض؟ وقال:) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (؛ وقال:) إنني معكما أسمع وأرى (؛ وقال:) ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم (في نظائر لهذه الآيات، فما أنكرتم أنه في كل مكان؟
يقال لهم: قوله تعالى) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إليه (، المراد به أنه إله عند أهل السماء، وإله عند أهل الأرض، كما تقول العرب "فلان نبيل مطاع بالعراق ونبيل مطاع بالحجاز" يعنون بذلك أنه مطاع في المصرين وعند أهلهما، وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة، وقوله) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (يعني بالحفظ والنصر والتأييد، ولم يرد أن ذاته معهم يتعالى عن ذلك!، وقوله) إنني معكما أسمع وأرى (محمول على هذا التأويل، وقوله) ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم (يعني أنه عالم بهم وبما خفي من سرائرهم ونجواهم، وهذا إنما يُستعمل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال، قياساً على هذا، إن الله سبحانه بالبرَدان وبمدينة السلام، وإنه تعالى مع الثور ومع الحمار؛ ولا أن يقال إنه مع الفسَّاق والمجَّان ومع المصعدين إلى حلوان، قياساً على قوله) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (فوجب أن يكون التأويل على ما وصفناه.
ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيفٍ ودمٍ مهراق
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً عزيزاً مقتدراً، وقوله) ثم استوى على العرش (يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه). (التمهيد، ص 260 - 262، طبعة مكارثي).
¥