الأسْبابُ الفاسدةُ والدواعي الواهِيةُ للبدءِ بكبارِ العلمِ قبلَ صِغارِه!
ـ[مهنَّد المعتبي]ــــــــ[02 - 08 - 07, 08:47 ص]ـ
هذه الأسباب ـ أيها الأحبة ـ من كلام أبي الحسن الماوردي في (أدب الدنيا والدين) أفردته هنا؛ لأهميته، وحتى لا يطول الانتقاء في الموضوع الذي كتبته (المنتقى من أدب الدنيا والدين) في هذا المنتدى.
[الأسباب الفاسدة والدواعي الواهية للبدء بكبار العلم قبل صغاره]
1 ـ أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ أَغْرَاضٌ تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَدْعُو الْغَرَضُ إلَى قَصْدِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَيَعْدِلُ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ، كَرَجُلٍ يُؤْثِرُ الْقَضَاءَ وَيَتَصَدَّى لِلْحُكْمِ فَيَقْصِدُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ أَدَبَ الْقَاضِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ، أَوْ يُحِبُّ الِاتِّسَامَ بِالشَّهَادَةِ فَيَتَعَلَّمُ كِتَابَ الشَّهَادَاتِ فَيَصِيرُ مَوْسُومًا بِجَهْلِ مَا يُعَانِي.
فَإِذَا أَدْرَكَ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ حَازَ مِنْ الْعِلْمِ جُمْهُورَهُ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ مَشْهُورَهُ، وَلَمْ يَرَ مَا بَقِيَ مِنْهُ إلَّا غَامِضًا طَلَبُهُ عَنَاءٌ، وَغَوِيصًا اسْتِخْرَاجُهُ فَنَاءٌ؛ لِقُصُورِ هِمَّتِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ، وَانْصِرَافِهَا عَمَّا تَرَكَ.
2 ـ أَنْ يُحِبَّ الِاشْتِهَارَ بِالْعِلْمِ إمَّا لِتَكَسُّبٍ أَوْ لِتَجَمُّلٍ فَيَقْصِدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَدَلِ وَطَرِيقِ النَّظَرِ، وَيَتَعَاطَى عِلْمَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ دُونَ مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ؛ لِيُنَاظِرَ عَلَى الْخِلَافِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْوِفَاقَ، وَيُجَادِلَ الْخُصُومَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَذْهَبًا مَخْصُوصًا.
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ عَدَدًا قَدْ تَحَقَّقُوا بِالْعِلْمِ تَحَقُّقَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَاشْتُهِرُوا بِهِ اشْتِهَارَ الْمُتَبَحِّرِينَ، إذَا أَخَذُوا فِي مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ ظَهَرَ كَلَامُهُمْ، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ وَاضِحِ مَذْهَبِهِمْ ضَلَّتْ أَفْهَامُهُمْ، حَتَّى إنَّهُمْ لَيَخْبِطُونَ فِي الْجَوَابِ خَبْطَ عَشْوَاءِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ صَوَابٌ، وَلَا يَتَقَرَّرُ لَهُمْ جَوَابٌ.
وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا إذَا نَمَّقُوا فِي الْمَجَالِسِ كَلَامًا مَوْصُوفًا، وَلَفَّقُوا عَلَى الْمُخَالِفِ حِجَابًا مَأْلُوفًا.
وَقَدْ جَهِلُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا يَعْلَمُ الْمُبْتَدِئُ وَيَتَدَاوَلُهُ النَّاشِئُ.
فَهُمْ دَائِمًا فِي لَغَطٍ مُضِلٍّ، أَوْ غَلَطٍ مُذِلٍّ وَرَأَيْت قَوْمًا مِنْهُمْ يَرَوْنَ الِاشْتِغَالَ بِالْمَذَاهِبِ تَكَلُّفًا، وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ تَخَلُّفًا.
وَحَاجَّنِي بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ: لِأَنَّ عِلْمَ حَافِظِ الْمَذَاهِبِ مَسْتُورٌ، وَعِلْمُ الْمَنَاظِرِ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ.
فَقُلْت: فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمُ حَافِظِ الْمَذْهَبِ مَسْتُورًا وَهُوَ سَرِيعٌ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، كَثِيرُ الصَّوَابِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْأَلْ سَكَتَ فَلَمْ يُعْرَفْ، وَالْمَنَاظِرُ إنْ لَمْ يَسْأَلْ سَائِلٌ يُعْرَفُ.
فَقُلْت: أَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْحَافِظُ فَأَصَابَ بَانَ فَضْلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: أَفَلَيْسَ إذَا سُئِلَ الْمَنَاظِرُ فَأَخْطَأَ بَانَ نَقْصُهُ، وَقَدْ قِيلَ: عِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ؟ فَأَمْسَكَ عَنْ جَوَابِي؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ كَابَرَ الْمَعْقُولَ، وَلَوْ اعْتَرَفَ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ.
وَالْإِمْسَاكُ إذْعَانٌ وَالسُّكُوتُ رِضًى، وَأَنْ يَنْقَادَ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُ الْبَاطِلُ.
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَقُولُ اعْرَفُونِي وَهُوَ غَيْرُ عَرُوفٍ وَلَا مَعْرُوفٍ وَبَعِيدٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ أَنْ يَعْرِفَهُ.
3 ـ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ التَّعَلُّمِ فِي الصِّغَرِ، ثُمَّ يَشْتَغِلَ بِهِ فِي الْكِبَرِ فَيَسْتَحِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِمَا يَبْتَدِئُ الصَّغِيرُ، وَيَسْتَنْكِفُ أَنْ يُسَاوِيَهُ الْحَدَثُ الْغَرِيرُ، فَيَبْدَأُ بِأَوَاخِرِ الْعُلُومِ، وَأَطْرَافِهَا، وَيَهْتَمُّ بِحَوَاشِيهَا، وَأَكْنَافِهَا؛ لِيَتَقَدَّمَ عَلَى الصَّغِيرِ الْمُبْتَدِي، وَيُسَاوِيَ الْكَبِيرَ الْمُنْتَهِي.
وَهَذَا مِمَّنْ رَضِيَ بِخِدَاعِ نَفْسِهِ، وَقَنَعَ بِمُدَاهَنَةِ حِسِّهِ؛ لِأَنَّ مَعْقُولَهُ إنْ أَحَسَّ وَمَعْقُولَ كُلِّ ذِي حِسٍّ يَشْهَدُ بِفَسَادِ هَذَا التَّصَوُّرِ، وَيَنْطِقُ بِاخْتِلَالِ هَذَا التَّخَيُّلِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ فِي وَهْمٍ.
وَجَهْلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ أَقْبَحُ مِنْ جَهْلِ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعَالِمُ.
¥