[البصيرة والنظر في العواقب]
ـ[أم حنان]ــــــــ[15 - 06 - 07, 02:14 م]ـ
بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
ذكر ابن مفلح في كتابه (الاّداب الشرعية) كلاما جميلا عن البصيرة والنظر في العواقب:
[ص: 229] فَصْلٌ (فِي الْبَصِيرَةِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ).
كَانَ مُلُوكُ فَارِسَ يَعْتَبِرُونَ أَحْوَالَ الْحَوَاشِي بِإِيفَادِ التُّحَفِ عَلَى أَيْدِي مُسْتَحْسَنَاتِ الْجَوَارِي وَيَأْمُرُونَهُنَّ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى إذَا أَطَالُوا الْجُلُوسَ فَتَدِبُّ بِوَادِي الشَّهْوَةِ قَتَلُوا أُولَئِكَ , وَإِذَا أَرَادُوا مُطَالَعَةَ عَقَائِدِ الْفُسَّادِ دَسُّوا مَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَمِّ الدَّوْلَةِ فَإِذَا أَظْهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ اسْتَأْصَلُوهُمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: فَيَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ , وَمَنْ مَخَّضَ الرَّأْيَ كَانَتْ زُبْدَتُهُ الصَّوَابَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ , وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ حِكَايَاتٍ وَقَالَ لِيَحْذَرْ الْحَازِمُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَقَالَ الرَّجُلُ مَنْ عَمِلَ بِالْحَزْمِ وَحَذِرَ الْجَائِزَاتِ , وَالْأَبْلَهُ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَيَثِقُ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ.
وَقَالَ أَيْضًا أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَصُون (فَصْلٌ مُهِمٌّ) إنَّمَا فُضِّلَ الْعَقْلُ عَلَى الْحِسِّ بِالنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ , فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يَرَى الْحَاضِرَ , وَالْعَقْلُ يُلَاحِظُ الْآخِرَةَ وَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ , فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ تَلَمُّحِ الْعَوَاقِبِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّكَاسُلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَإِيثَارَ عَاجِلِ الرَّاحَةِ يُوجِبُ حَسَرَاتٍ دَائِمَةً لَا تَفِي لَذَّةُ الْبَطَالَةِ بِمِعْشَارِ تِلْكَ الْحَسْرَةِ , وَلَقَدْ كَانَ يَجْلِسُ إلَيَّ أَخِي وَهُوَ عَامِّيٌّ فَقِيرٌ , فَأَقُولُ فِي نَفْسِي قَدْ تَسَاوَيْنَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ فَأَيْنَ تَعَبِي فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؟ وَأَيْنَ لَذَّةُ بَطَالَتِهِ؟
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجْهَلُ بَعْضَ الْعِلْمِ فَيَسْتَحِي مِنْ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَلِئَلَّا يُرَى بِعَيْنِ الْجَهْلِ فَيَلْقَى مِنْ الْفَضِيحَةِ إنْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَضْعَافَ مَا آثَرَ مِنْ الْحَيَاءِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الطَّبْعُ يُطَالِبُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الْحَاضِرَةِ مِثْلُ جَوَابِ [ص: 230] جَاهِلٍ وَقْتَ الْغَضَبِ , ثُمَّ يَقَعُ النَّدَمُ فِي ثَانِي الْحَالِ عَلَى أَنَّ لَذَّةَ الْحِلْمِ أَوْفَى مِنْ الِانْتِقَامِ , وَرُبَّمَا أَثَّرَ ذَلِكَ الْحِقْدُ مِنْ الْجَاهِلِ فَتَمَكَّنَ فَبَالَغَ فِي الْأَذَى لَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَادِيَ النَّاسَ وَمَا يَأْمَنُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمُعَادَى فَيُؤْذِيَهُ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْمِرَ عَدَاوَةَ الْعَدُوِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّ شَخْصًا فَيُفْشِيَ إلَيْهِ أَسْرَارَهُ ثُمَّ تَقَعُ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى الْمَالَ الْكَثِيرَ فَيُنْفِقُ نَاسِيًا أَنَّ ذَلِكَ يَفْنَى فَيَقَعُ لَهُ فِي ثَانِي الْحَالِ حَوَائِجُ فَيَلْقَى مِنْ النَّدَمِ أَضْعَافَ مَا الْتَذَّ بِهِ فِي النَّفَقَةِ , فَيَنْبَغِي لِمَنْ رُزِقَ مَالًا أَنْ يُصَوِّرَ السِّنَّ وَالْعَجْزَ عَنْ الْكَسْبِ , وَيُمَثِّلَ ذَهَابَ الْجَاهِ فِي الطَّلَبِ مِنْ النَّاسِ , لِيَحْفَظَ مَا مَعَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْبَسِطَ ذُو دَوْلَةٍ فِي دَوْلَتِهِ فَإِذَا عُزِلَ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَوِّرَ الْعَزْلَ وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ.
¥