الحافظ الذهبي- بعد ذكره لطائفة من العلماء-:" ... وأما اليوم فما بقي من العلوم القليلة إلا القليل في أناس قليل ما أقل من يعمل منهم بذلك القليل فحسبنا الله ونعم الوكيل" ... وقد أصاب كبد الصواب من قال:
وكانوا إذا عدّوا قليلا ... وقد صاروا أقلّ من القليل
فكان من المناسب جدّا، بل من الواجب شرعاً تذكير الأنام بحقوق العلماء الأعلام ... ومما يزيد الموضوع أهمية كثرة الفتن والأزمات التي تتخبط في أوحالها الأمة الإسلامية في عصرها الحاضر، مع غفلة أكثر أبناء هذه الأمة عن المواقف الشرعية الصحيحة التي هي كفيلة وحدها بإخراجها من الظلمات إلى النور، والتي لا ينبغي أن تؤخذ إلا من العلماء الربانيين، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء83]
ما الذي نقصده بالعلماء؟ أو بعبارة أدق: كيف يعرف العلماء؟ أخي القارئ، هل فكرت يوما ما كيف يمكن للعبد معرفة العلماء الربانيين الذين منهم تأخذ العلوم وتستمد المواقف والفهوم؟ .. أيعرفون بثناء وسائل الإعلام؟ أم بتعظيم السذج والعوام؟ أم بإتقان الكلام والتفنن في كشف مثالب الحكام؟ أم بالجلوس بين السفهاء وإصدار الأحكام؟ أم بالظفر بتزكية ممّن نصبوا أنفسهم في منصب القضاة والحكام؟ أم ... ؟؟ لا لا -واللهِ- لا يعرف العلماء بشيء من ذلك، بل يعرفون بمثل الضوابط التالية:
1 - رسوخ القدم في العلم: «وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.» .. وذلك الرسوخ تجده ظاهرا في الآفاق لكلّ ذي عينين بصيرتين، يعترف به العدو قبل الصديق ... ويشهد لذلك إنتاجه ومؤلفاته وبحوثه وتلامذته وفتاواه الموافقة لفتاوى الأكابر .. الخ.
2 - رسوخ القدم في مواطن الشبه وفي إبان الفتن الهوجاء: التي تصيّر الحليم حيرانا ... فالعالم طود شامخ وجبل شاهق لا تحرّكه العواصف مهما اشتدّ هيجانها، ولا تنسفه الزلازل مهما قوي اضطرابها ..
3 - نُسُكُهم وخشيتهم لله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر28] ... وقال ابن مسعود: "إنما العلم الخشية" .. وقال شيخ الإسلام:"وكلّ أمة قبل مبعث نبينا فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإنّ علماءهم خيارُهم".
4 - دعوتهم إلى الله وبذلهم الأوقات في التعليم والدعوة والإصلاح بين الناس: وباستعلائهم عن الدنيا وحطامها ... وصبرهم على مشاق العلم والتعليم والدعوة وجفوة الناس .. الخ.
5 - شهادة شيوخهم العارفين لهم بالعلم والفضل والأهلية: قال مالك رحمه الله:" .. ما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك ولو نهياني لانتهيت" .. وليس بتزكية من يحتاج هو إلى تزكية، أو ثناء من لم يعرف وجهه فضلا عن معرفة قدراته العلمية وكفاءاته الشرعية.
6 - بورعهم في مواطن الشك والريب: فهم أولى الناس بحديث المصطفى-صلى الله عليه وسلم-: « ... وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ... » متفق عليه .. وهم أسعد الورى بقول النبي المجتبى -صلى الله عليه وسلم-: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
7 - بفراستهم وتوقّد ذكائهم وقوّة بصيرتهم: (إنّ في ذلك لآيات للمتوسمين) [الحجر75].
- من حقوق العلماء:
1 - معرفة مكانتهم بين الناس ومنزلتهم في دين الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... ) [النساء59] .. فطاعتهم هي طاعة لله ولرسوله ... وقال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل43].وقال عز من قائل: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران18] .. وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت43].وهو القائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر9] وقال الإمام أحمد-رحمه الله-:"الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأنّ الطعام والشراب يحتاج إليه
¥