[ما أشبه ليل الشعر ببارحته]
ـ[هاني إسماعيل]ــــــــ[01 - 04 - 2010, 04:03 م]ـ
ما أشبه ليل الشعر ببارحته ( http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?Id=273)
مقال منشور بالمجلة العربية عدد الشهر الجاري
«إن التاريخ يعيد نفسه ... » عبارة شهيرة تتكرر بين دفات كتب التاريخ، وتتردد على ألسنة المؤرخين ومدرسي التاريخ؛ تتشابه الأحداث أو تتكرر الأسباب والمسببات، وتكاد تكون مسلمة من مسلمات فلسفة التاريخ.
فهل تصدق هذه العبارة على تاريخ الشعر العربي بصفته صورة من صور التاريخ العام؟
وقد قال الشاعر الجاهلي:
هل غادر الشعراء من متردم؟
وقال الآخر:
ما أرانا نقول إلا رجيعاً
ومعاداً من قولنا مكرورا
تتجلى صور استعادة تاريخ الشعر لأحداثه الغابرة في مدرسة الإحياء والبعث بزعامة محمود سامي البارودي الذي رجع بالشعر إلى عصره الجاهلي شكلاً ومضموناً، وتناول الأغراض المعروفة والمألوفة، ولم يجدد في أغراض الشعر التي عرفها شعراء العصر العباسي، وتبلغ استعادة التاريخ الشعري عند البارودي الذروة حتى نسي أنه في مصر وأنه نشأ وتربى فيها، وأنه بعيد عن روابي الحجاز ووديانه، فقال:
أين ليالينا بوادي الغضا
ذاك عهد ليته ما انقضى
كنت به من عيشتي راضياً
حتى إذا ولى عدمت الرضا
أيام لهو وصبا كلما
ذكرتها ضاق على الفضا
وقد وقف على الأطلال والدمن وأتى بشعر جاهلي الروح والمعنى والوجه والزي، ولا يمت إلى عصره وعصر الحضارة بصلة.
وكأننا حين نطالع هذا الشعر -وما أكثره عند شعراء مدرسة الإحياء والبعث- نكون قد عدنا لنعيش في العصر العباسي لكي نستأنف حركتنا التاريخية هناك، عبر نوع من الردة إلى الماضي للامتداد منه إلى الحاضر، إنها بعبارة أخرى تمثل امتداد الماضي في الحاضر وتحقق نوعاً من الاتصال بينهما.
أما شعراء المدرسة الرومنسية العربية بأطيافهم المتباينة، فتتقابل ثورتهم على مدرسة الإحياء والبعث بما فيها من تقاليد موروثة، مع ثورة الثائرين من شعراء العصر العباسي على الشعر الجاهلي وعموده، ونجدها شديدة الشبه في رفض ما نهجه الشعراء الأوائل من وقوف على الأطلال وبكاء حبيب ومنزل «وربما كان أبو نواس أبرز شعراء العصر العباسي الذين لم يكتفوا برفض ذلك بل تهكموا به وسخروا من أصحابه تهكما لاذعاً، وسخرية مرة»، فيقول متهكماً من الوقوف على الأطلال:
صاح ما لي وللرسوم القفار
ولنعت المطي والأكوار
شغلتني المدام والقذف عنها
بقراع الطنبور والأوتار
واستماع الغناء من كل خود
ذات دل بطرفها سحار
فدعوني فذاك أشهى وأحلى
من سؤال التراب والأحجار
وهكذا تهكم العقاد في كتاب الديوان من شوقي وسخر منه واعتبر هدم ما بناه شوقي وأضرابه من أتباع المذهب العتيق أهون. وهكذا صاح لويس عوض «حطموا عمود الشعر» وقول القائل:
ورمش عين الحبيب
يفرش على فدان
يعدل عنده كل ما قدم المستعربون من قريض بين الفتح العربي 640 ومحمود سامي البارودي. ويضيف لويس عوض مؤكداً استعادة التاريخ الشعري لأحداثه فيقول: «وحقيقة الحال أن عمود الشعر العربي لم ينكسر في جيلنا، وإنما انكسر في القرن العاشر الميلادي، كسره الأندلسيون» حينما ضاقوا بالأداء العربي التقليدي فاصطنعوا عبارة دمثة متمدنة، وحطموا الشكل التقليدي ليقيموا مكانه شكلاً رشيقاً خفيفاً يتناسب مع طبيعتهم وبيئتهم.
وإن هذا التشابه في مجرى أحداث تاريخ الشعر العربي؛ الذي يكاد يصل في بعض الأحايين إلى حد التطابق، دفع ببعض الدارسين كأدونيس وأحمد سويلم بالقول إن الحداثة الشعرية العربية ليست ابتكاراً غربياً بل عربياً عرفها الشعر العربي منذ القرن الثامن أي قبل بودلير وملارميه ورامبو بحوالي عشرة قرون، حين مورست خلاله حركات تجديدية على سمات القصيدة العربية بناء ومعنى، وحينما أخذت جذورها من بشار وديك الجن وأبي النواس والمتنبي وشعراء الأندلس وابن سناء الملك، وغيرهم ممن اعترف لهم الشعر العربي بالقدرة على رؤية المستقبل والتنبؤ الفني المتجدد».
وكللت هذه الحركات التجديدية بنجاح منقطع النظير حين أنتجت الموشحات الأندلسية، والدوبيت، والزجل، والأوزان المولدة كالمنسرد، والمطرد.
وما انتقادات العقاد ومن وافقه لمدرسة الإحياء والبعث ..
وما كتابات أمين الريحاني ورفاقه للشعر المنثور ..
وما إبداعات السياب وصحبه لشعر التفعيلة ..
وما اجتهادات أنسي الحاج وأعوانه في قصيدة النثر ..
ما هذا وما ذاك إلا ملمح من ملامح استعادة التاريخ الشعري لنفسه، وما أشبه ليل الشعر ببارحته.