تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الراية البيضاء وخارطة الطريق ..]

ـ[أحاول أن]ــــــــ[31 - 03 - 2010, 03:29 ص]ـ

الراية البيضاء وخارطة الطريق

بداية: لا علاقة للموضوع بـ: كامب ديفيد ولا اتفاقات أوسلو:) ..

بل وقفة أمام نفسية الشاعر المحارب وذي المبادئ المناضل حين يلوح بالاستسلام .. الاستسلام للموجعات والرضا بالتحولات .. قراءة ذاتية أتأمل فيها "نفسه وحسب " وهويرفع الراية البيضاء ثم يدلي بنصائحه ورؤاه ومشوراته " من واقع التجارب.

أبدأ بنونية المتنبي الأشهر التي أشبعها النقاد دراسة وتحليلا وحفظها العامة والخاصة " بم التعلل "؛ لأنها بداية الانهزام النفسي الذي أعلنه المتنبي بمرارة وخضوع ..

قالها عام 348 في مصرقبل وفاته بست سنوات , ست سنوات تنازل فيها عن كثير من مبادئه وطموحاته ,و شعرت فيها بإحباط ابتدأ ولم ينته ِ ..

وتروى للقصيدة مناسبة مباشرة: أنه نُعي في مجلس سيف الدولة فلم يأبه لا كثيرا ولا قليلا! والحقيقة أنه شعور جد موجع! حين تتكشف شخصية صديق زائف , و لا يهتم لشأنك أخ مقرب فضلا عن أن يكترث لغيابك الآني أو الدائم بالرحيل. لكني أقرؤها بلا مناسبة حيث أتلمس فيها تراكمات منهكة أثخنت روحه بالجراح , فجرها الموقف الأخير ليس إلا ..

بم التعلل , لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن ُ؟

نفسيا: اللا وعي رتب "المعللات في الحياة " فتناولها في حلقات من الدائرة الأضيق إلى الأوسع , الأقرب تحقيقا إلى الأبعد , الضرورة إلى الترف:

الأهل: لم يعرف الاستقرار الأسري.

الوطن: بمعناه الأشمل " الانتماء " وهو عراقي المولد , حلبي الهوى , مصري الإقامة , مجهول الوجهة!

النديم: لم يعد هناك من يستحق.

الكأس: على غير عادة الشعراء كان يعتني بعقله فلا يغيبه.

السكن: من السكينة بكل دواعيها ومسبباتها " الأبعد تحقيقا "

إذن فالمطلع: راية بيضاء لما وجد أن ْ لا شيء يستوجب المقاومة ..

التالي: رسم خارطة طريق للتعايش السلمي مع تحديات الحياة , ونظر في إمكانية التكيف مع المحبطات ..

أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

لا تلق دهرك إلا غير مكترث .. مادام يصحب فيه روحك البدنُ

معذورٌ أيها الناقل " الزمن " مركباتك لا تستطيع الوصول للمحطة "الحلم ". .

فهم متأخرا أن الطموحات الكبرى تجلب الموجعات الكبرى .. وأن شدة العناية والاهتمام لا تغني من السعادة شيئا ..

دعوة لعدم المبالاة تنم عن اكتئاب قاتل , ويأس سلبي لم يرُق لقرائه لولا حسن تعليله، وروعة إقناعه وهو يغور في أعماقه وريدا وريدا، ويبوح بأعراضه غصة غصة:

فما يدوم سرور ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن ُ

برر يأسه , ومرر نزفه ..

كم احتاج من التجارب القاسية ليصل لقناعة التكيف مع الفرح أو الحزن!

يبوح أكثر ويسبر نفسه أعمق:

مما أضر بأهل العشق أنهم .. هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم .. في إثر كل قبيح وجهه حسن ُ

"أهل العشق " وليس منهم!

العقل الباطن أيضا أحضر هذا الشأن مباشرة بعد " الفائت " الذي لا يُرد، أتت صدمة اتضاح الرؤية في حقيقة المساند الذي تخاذل، اللطيف الذي خان، الأنيس الذي غدر، النقي الذي كان، الحبيب الذي هجر ..

غلب الإحباط هذه الكلمات؛لأنه شعور المخدوع بحسن ظنه، العاجز عن التغيير لسوء تقديره ..

تحتد الشكوى فيرتفع صوته الداخلي في أنفةٍ تليق به:

تحملوا حملتكم كل ناجية .. فكل بين علي اليوم مؤتمن ُ

ما في هوادجكم من مهجتي عوض .. إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن ُ

هذه بالضبط عقلانية العاطفة العاصفة، والبعد البؤري اللازم لعدم انصهار الذات في العلاقات الإنسانية بين أي طرفين "أي طرفين " على طريقة: - أحبب حبيبك هونا ما فقد يكون عدوك يوما ما وأبغض عدوك هونا ما فقد يكون حبيبك يوما ما –

زادت العقلانية وعلا صوته أكثر:

يا مَن!

يا من نعيت على بعد بمجلسه .. كل بما زعم الناعون مرتهن ُ

كم قد قتلت وكم قد مت عندكم .. ثم انتفضت فزال القبر والكفنُ

قد كان شاهد دفني قبل قولهم .. جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا

حنق ٌ في انتفاضة، وانتفاضة بلا سلاح وُئدت سريعا:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه .. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

هذا البيت الأشهر في الشعر العربي؛ لما فيه من الإسقاط ودعوى قلة الحيلة, هو شعار يردده كل حلم مغتال، وتعلقه كل أمنية قضت نحبها ..

هل تصدق أنه ذاته قال يوما:

إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم

يا لَرياح التجارب العاتية التي تحول الاتجاهات وتغير ترتيب المهمات , إن لم تكسر الأماني الباسقة فإنها في أحسن الأحوال تسلب المتعة بمشاهدتها واقعا ..

في هذا النص المحبط وقف المتنبي أمام الطموحات، والتحديات،و المشاعر، والمبادئ، والظروف وأعلن الموافقة، والرضا أول مراتب الاستسلام .. وأعلى منازله السلام مع الذات بلا ضغينة، والتآلف مع الفكربلا نزاعات أو اعتراضات ..

تنازلَ ورفع الراية البيضاء ثم رسم خارطة طريق نحو نفسية سليمة .. لكنها -كالمعتاد- لا تُنفذ!

اللهم إنا نسألك الرضا بالقضاء وعيش السعداء والفوز بالجنة والنجاة من النار ..

الراية التالية حين رفعها أبو فراس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير