الحوار في الشعر العربي (لمّ الشمل)
ـ[السراج]ــــــــ[31 - 07 - 2010, 12:54 م]ـ
الحوار في الشعر العربي (لمّ الشمل)
الشعر ككل ألوان الأدب العربي يتأثر بحركة الألفاظ وتنوعها وتنقلها مما يجعل العمل الأدبي ميالا للحركة بنسب متفاوتة وهذه المسببات عدها اللغويون حسب قوتها في الارتقاء بالعمل لمصاف الحركة وقربه من الحدث الواقعي بل أحيانا يفوقه.
ومن العوامل التي تضيء البيت الشعري حركة:
1 - تنقل الألفاظ وتكرارها بصيغ مختلفة، مثل قول ابن هانئ الأندلسي في الوصف الجميل، فالتكرارُ الحاصل في البيت تمثّله كلِمَتَا (هضب) و (حزون) يوحي إلى الأذهان تتابُعَ الهضاب والرُّبَى أثناء عَدْوِ الفرَس، فكأنَّه يعرض أمام العين شريطًا سينمائيًّا متحرِّكًا، اقرأ معي:
وَفَوَارِسٌ لاَ الهَضْبُ يَوْمَ مَغَارِهَا ... هَضْبٌ وَلاَ الوَعْرُ الحَزُونُ حَزُونُ
2 - حركة الخيال الكثيف، وهو ما يؤديه بيت الشاعر بشّار بن برد الشهير:
كأن مثار النقع فوق رؤسنا **** واسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وبيت الشاعر البحتري في وصف بركة المتوكل:
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ** كالخيل خارجة من حبل مجريها
وهو صورة معبّرة عن الحركة المتدفّقة في سرعة تستدعي خيالنا ليستعيد هو الآخر الصورة الحقيقية.
3 - البيان والأساليب، مثال ذلك بيت الأعشى
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السحاب لا ريث ولا عجل
حيثُ للأساليب البلاغية دور في تزيين البيت وإضفاء حركة جاذبة عليه.
4 - المعنى، وهنا يمثّله أبو الطيب المتنبي في بيت العتاب:
أُسَارِقُكَ اللّحْظَ مُسْتَحْيِياً ... وَأزْجُرُ في الخَيلِ مُهري سِرارَا
وهنا تكاتف الصوت والصورة ليكملا جسداً شعرياً مميزا، وإنما تنبعُ الحركة من هذا الاكتمال.
5 - والأهم صياغة الحوار - وهو محور موضوعنا
حاول العرب قديما جعل الشعر إنعكاسا لحياتهم وتلوينه بصبغة المشاعر التي تباري الواقع وتتفوق عليه فكانت قصائدهم قد أخذت لون حواراتهم سواء مع محبوباتهم أم أصحابهم نقلا عن حاضرهم أو حدثا مر أو على سبيل الترميز والتخييل لكنه يظل إضافة شعور إلى وجدانهم ومكنوناتهم الداخلية وإن عبرت عفو الخاطر في ظل عمل ما أو مواكبة لقافلة أو مسير.
والحوار هو أحد أعمدة اللغة وسبيل التواصل والاتصال الخاص بها.
واستطاعوا من خلال ذلك بث الحركة وتشكيل صورا متنوعة للحوار حتى ليصبح الشعر زاخرا بأحاديث الأصحاب والمتنافسون وأحاديث الحداة مع أمطيتهم وحتى الأحاديث الخفية مع النفس.
في هذه الصفحة نحاول جمع أبيات من الأدب العربي تضمنّت حواراً راقياً تُعبّر بصدق عن جمالية الشعر (ستدركون أن أغلب ذلك في الغزل).
أهديكم أولاً هذين البيتين للشاعر: البحتري
لي إِلى الرَّيحِ حاجَةٌ إِنْقَضَتْهَا ... كُنْتُ لِلرِّيح ما بَقِيتُ غُلاَمَا
حَجَبُوهَا عَنْ الرِّياحِ لأَني ... قُلتُ للرِّيح: بَلِّغِيهَا السَّلاَمَا
ثم أبدأ به في هذين المقطعين:
يا مَوْعِدا فات فأَبقى الجَوى ... من مُخلفٍ لِلوعْدِ حَلاَّفِ
قَالَ وفَدَّاني فصَدَّقْتُهُ ... بِرقَّةٍ مِنْهُ وأَعْطافِ
لِسَانُكَ الحُلْوُ الّذي غَرَّني ... مِنْكَ وفَدْ أَكثرْتَ إِخلاَفِي
أَسْرفتُ في حُبِّك حتَّى لَقَدْ ... أَضَرَّ بي عِندك إِسرافي
وفي أبياتٍ أخر:
قَدْ قُلْتُ لمَّا رأَيتُ المَوتَ يَنْزِلُ بي ... وَكَادَ يَهْتِفُ بي ناعِيَّ،أَو هتَفَا:
أَموتُ شَوْقاً، ولاَ أَلقاكُمُ أَبداً ... يا حَسرتا، ثُمَّ يا شَوْقا، ويا أَسفا
إِني لأَعجَبُ مِنْ قلبٍ يُحبُّكُمُ ... وما يَرَى منْكُمُ ودًّا ولا لُطُفَا
ولأبي فراس حوارية رائعة:
ما أنس قولتهن، يوم لقينني: ... أزرى السنان بوجه هذا البائسِ
قالت لهن: وأنكرت ما قلنه: ... أجميعكن على هواه منافسي؟
إني ليعجبني، إذا عاينته، ... أثر السنان بصحن خدّ الفارسِ
ولعلّ من أجمل ما نلقاه من هذه الحوارات رائعة بهاء الدين زهير الذي يصف فيه موقف وداع بينه وبين محبوبته، هو سيفارق الديار وقد جاء ليودعها فتحولالأمر إلى بكاء!
وَقائِلَةٍ لَمَّا أَرَدتُ وَداعَها ... حَبيبِي أَحَقّاً أَنتَ بِالبَينِ فاجِعي
فَيا رَبَّ لا يَصدُق حَديثٌ سَمِعتُهُ ... لَقَد راعَ قَلبِي ماجَرَى فِي مَسامِعي
أما عمر بن أبي ربيعة فكان الكثير من شعره بناه على الحوار مثل ما يصوّره في غزله حتى بين مشاعر الحج:
قالتْ لِترْبٍ لها تحدّثها ... لنُفْسدَنّ الطواف على عُمَر
قومي تصدَّيْ له ليعرفنا ... ثم اغمِزيه يا أختَ في خَفرِ
قالت لها قد غمزتُه فأبَى ... ثم اسبطرّتْ تسعى على أثري
(دعوة للمشاركة):)
ـ[السراج]ــــــــ[01 - 08 - 2010, 10:32 م]ـ
ومن رائعة يزيد بن معاوية:
إنسية لو رؤيتها الشمس ما طلعت ... من بعد رؤيتها يوما على احد
سألتها الوصل قالت:لا تغر بنا ... من رام منا وصالا مات بالكمد
فكم من قتيل لنا بالحب مات جوى ... من الغرام ولم يبدئ ولم يعد
فقلت استغفر الرحمن من زلل ... إن المحب قليل الصبر والجلد
قد خلفتني طريحا وهي قائلة: ... تأملوا كيف فعل الضبي بالاسد
قالت لطيف خيال خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
واسترجعت سألت عني فقيل لها: ... ما فيه من رمق دقت يدا بيد
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد
¥