ـ[سامي الفقيه الزهراني]ــــــــ[08 - 08 - 2010, 07:43 م]ـ
جزاك الله خيرا، وبارك فيك.
ولي إضافة لها صلة مباشرة بالموضوع:
هذا من حيل الشعراء التي يدرؤون بها عنهم العقوبة والتنكيل، إذ إن الأصل قبل التغيير يوجب عليهم العقوبة، وقد تصل إلى القتل أحيانا؛ فيتدخل الشاعر بتعديل خفيف لا يؤثر في شكل القصيدة ولفظها إلا يسيرا، ولكنه يغير معناها تماما إلى صيغة تبعد التهمة وتدرأ العقاب.
وقد يلجأ بعض الشعراء مقدما إلى الاحتياط، يأن يترك هامشا خفيفا للتعديل غيرِ المثير للشبهة إذا لزم الأمر، واحتاج إلى تبرئة نفسه.
ولا يحضرني الآن على ذلك إلا مثالان شهيران أكتفي بذكرهما:
أما المثال الأول: فقد جيء بشاعر من أتباع شبيب الخارجي، - وقد أُهدِر دمه- إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، فقال له الخليفة: ألست القائل:
فمنا حُصَينٌ والبَطينُ وقعنبٌ ... ومنا أميرُ المؤمنين شَبيبُ
برفع "أمير".
فقال الخارجي: لم أقل ذلك يا أميرَ المؤمنين، وإنَّما قلتُ: "ومنَّا - أميرَ المؤمنين- شبيبُ"،
وحكاها بنصب "أمير". فقَبِل قولَه وأطلقه.
فتأمل جوابَه الذي يَدل على توقد الذكاء وحضور البديهة، حيث غيرَ حركة إعرابية واحدة من الرفع إلى النصب، فاختلف المعنى جذريا (فالرفع يعني إسنادَ إمارة المؤمنين لشبيب الخارجي الذي قتله الحجاج من قبلُ، والنصبُ يجعل "أميرَ" منادى مضافًا مع عطف شبيب على المذكورين في الصدر فقط).
ولا أستبعد أن يكون هذا التلاعب مقصودا من قبلُ احتياطًا للنجاة من مثل هذا الموقف. وقد يكون إطلاق الخليفة له ليس لاقتناع ببراءته، وإنما لإعجابه بأدبه وحسن جوابه.
أما المثال الثاني: فهو قول بشار بن برد في قصيدته الميمية المشهورة:
أبا مسلمٍ ما طولُ عيشٍ بدائمِ ... ولا سالمٌ عمَّا قليلٍ بسالمِ
فقد رُوي أنه قالها في مدح إبراهيم بن عبدالله بن حسن قبلَ قتلِه يُحرضه على أبي جعفر المنصور، ثم لما قُتل خاف أن تشتهر القصيدة فغير منها مواضع؛ فقلب الكنية من "أبي جعفر" إلى "أبي مسلم" (وهو من قواد العباسيين) وغير "سلامة" إلى "وشيكة"؛ والأولى أم أبي جعفر، والثانية أم أبي مسلم، وذلك في قوله:
فرمْ وَزَرًا يُنجيك يابنَ (وَشيكةٍ) ... فلستَ بناجٍ من مَضيمٍ وضائمِ
كما غير قولَه (الفاطميين) إلى (الهاشميين)، حتى يدخل فيهم الخليفة أبو جعفر، وذلك في قوله:
مِنَ (الهاشميين) الدعاةِ إلى الهدى ... جهارًا ومن يَهديك مثلُ ابنِ هاشمِ
فصارت القصيدة بعد التعديلات في مدح الخليفة أبي جعفر، والتحريض على القائد أبي مسلم الخراساني.
قلت: وفي القصة المذكورة اضطراب يثيرُ حولها اعتراضاتٍ وردودا وجيهة، إذ يستبعد أن تجوز هذه الحيلة على من هو أقل من أبي جعفر المنصور في أدبه وفهمه. بعكس الحيلة في القصة الأولى التي تبدو أقوى وأكثر إحكامًا.
من أنواع التخلص كذلك - إضافة إلى الحركة والحرف - استخدام الإشارة .. ولم أقف على أحد ممن أشار إلى هذا النوع من التخلص .. وإنما غالبا ما يكتفون ببيت الخارجي وبيت أبي نواس .. قال أبو الفرج الأصبهاني:
. ((أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة بن عتبة اللهبي عن أبيه
أن طريحا دخل على أبي جعفر المنصور وهو في الشعراء فقال له:لا حياك الله ولا بياك، أما اتقيت الله ويلك حيث تقول للوليد بن يزيد
(لو قلتَ للسيل دَعْ طريقَك والمو ... ج عليه كالهَضْبِ يَعْتَلِج)
(لساخ وارتدّ أو لكانَ له ... في سائر الأرض عنك مُنْعَرَجُ)
فقال له طريح قد علم الله عز و جل أني قلت ذاك ويدي ممدودة إليه عز و جل وإياه تبارك وتعالى عنيت ,
فقال المنصور: يا ربيع أما ترى هذا التخلص!)).