تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وموضوعات الوصف التي عالجها البارودي في شعره عديدة ومتنوعة منها:

أ_ وصف مظاهر الطبيعة:

يصف شاعرنا الليلة العاصفة الممطرة ويجعلنا نحس بقوة الرعد وعزف الرياح وشآبيب المطر، وسواد تلك الليلة ووحشتها، ويصف النجوم وجمالها ويصف السحاب الممطر والبرق والرعد وتأثيرها في الإنسان والأرض، كما يصف البحر الهائج والريح العاتية تعلو الموج فتحيله جبالا شامخة الذرى، كما يصف الجبال والغابات، فهو مصور ماهر في وصف الطبيعة يقول:

وليلة ذات تهتان وأندية كأنما البرق فيها صارم سلط

لف الغمام أقاصيها ببردته و آنهلّ في حجرتيها وابل سبط

بهماء لا يهتدي الساري بكوكبها من الغمام ولا يبدو بها نمط

ومربع لنسيم الفجر هينمة فيه وللطير في أرجائه لغط

وللنسيم خلال النبت غلغلة كما تغلغل وسط اللمة المشط

وللسماء خيوط غير واهية تكاد تجمع بالأيدي فترتبط (8)

في هذه الأبيات يسمو البارودي بإحساسه وبراعة تصويره لنتأمل كيف وصف النسيم وهو يمر من خلال النبات وخيوط المطر وهي تنزل من السماء.

كما تغنّى كثيرا بمفاتن الطبيعة في وطنه (9) كقوله يصف الربيع:

عم الحيا واستنت الجداول وفاضت الغداران والمناهلُ

وازينت بنورها الخمائل وغردت في أيكها البلابلُ

والباسقات الشمخ الحوامل مشمورة عن سوقها الذلاذلُ

ملوية في جيدها العثاكل معقودة في رأسها الفلائلُ (10)

في هذه الأبيات يقف شاعرنا طويلا أمام النخيل والسواقي ثم يقدم لنا صورا جميلة، فأغصان النخيل كأنها ذلاذل أو نهايات قميص، وقد شمرتها النخيل حتى أعناقها، ولوت في جيدها العثاكل أو عذق بلح وشماريخ وعقدت في رأسها فلائلها أو أليافها المجتمعة، تبدو لنا معانيه قريبة وتشبيهاته واضحة غير متكلفة، وخياله واف لا إغراب فيه.

ب_ وصف الأشخاص:

يبدو البارودي مصورا ماهرا في شعره، وتبدو على لوحته دخائل النفوس وأسرار القلوب والحركات والإشارات، وينطبق الكلام ذاته على وصفه للمعارك وميادين القتال وأدواته، وإذا كان وصف الحروب من الموضوعات القديمة التي تناولها الشعراء قبله، فان تصوير الأشخاص من الموضوعات النادرة التي أجاد فيها قليل من فحول الشعر العربي.

البارودي يصف البلغار في بلادهم حين رافق الحملة المصرية لحرب الروس:

بلاد بها ما بالجحيم، وإنما مكان اللظى ثلح بها وجليدُ

تجمعت البلغار والروم بينها وزاحمها التتار فهي حشودُ

إذا راطنوا بعضهم سمعت لصوتهم هديرا تكاد الأرض منه تميدُ

قباح النواصي والوجوه كأنهم لغير أبي هذا الأنام جنودُ

لهم صور ليست وجوهاً وإنما تناط إليها أعينُ وخدود (11)

يصف شاعرنا رطانتهم وعجمة ألسنتهم وقبح رؤوسهم ووجوههم حتى كأنهم ليس من البشر، وأن وجوههم متشابهة لا تستطيع التفريق بينها، بل لا يريد أن يعترف بان لهم وجوها وإنما هي صور وضعت فيها أعين وخدود، وفي الأبيات آلاتية يذم البارودي شخصا ويصفه بالنهم والجشع بقوله:

وصاحب لا كان من صاحب أخلافه كالمعدة الفاسدهْ

اقبح ما في الناس من خصلة احسن ما في نفسه الجامدهْ

لوأنه صوّر من طبعه كان لعمري عقربا راصدهْ

يصلح للصفع لكي لا يرى في عدد الناس بلا فائدهْ

يغلبه الضعف ولكنه يهدم في قعدته المائدهْ

يراقب الصحن على غفلة من أهله كالهرة الصائدهْ (12)

جـ _ وصف الأشياء الأخرى كالسجن والقطار (13) والخمر يقول في وصف السجن:

شفني الوجد وأبلاني السهر وتغشتني سمادير الكدرْ

فسواد الليل ما إن ينقضي وبياض الصبح ما إن ينتظرْ

لا أنيس يسمع الشكوى ولا خبر يأتي، ولا طيف يمرْ

بين حيطان وباب موصدٍ كلما حرّكه السجان صرْ

كلما درت لأقضي حاجة قالت الظلمة: مهلا لا تدرْ (14)

ففي هذه الأبيات يبدو شاعرنا واقعيا يصور مأساة السجن، يصف فيها مشاعر السجين بكل دقائقها.

د_ ولم ينس شاعرنا مجد آبائه المماليك الذين حكموا مصر، يستحضر هذا المجد في مجد وطنه مصر وما كشفه علم الآثار من أمجاد المصريين القدماء، صور البارودي ذلك في قصيدة وصف فيها الهرمين وهي أول قصيدة حديثة في الآثار الفرعونية يقول فيها:

سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر لعلك تدري بعض ما لم تكن تدري

بناءان ردّا صولة الدهر عنهما ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر

أقاما على رغم الخطوب ليشهدا لبانيهما بين البرية بالفخر

فكم أمم في الدهر بادت وأعصر خلت، وهما أعجوبة العين والفكر (15)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير