فالمحقق ابن الجزري لا تدل عباراته في كتبه على التقييد؛ فقد عاطف بين الكلمتين في "النشر"، ويبدو أنه كان واعيا متعمدا لذلك، لأنه عبر بالتعبير نفسه في "التقريب"، وعكس ترتيب الكلمتين في "الطيبة"، وكذلك فعل ابنه أحمد في الشرح، و"الظواهر إذا كثرت أفادت القطع". وكذلك فهم كلامَه المقرئون المتأخرون؛ فقد نص النشار والمنصوري على عدم التقييد، وفصل الأبياري بين الكلمتين، وكل ذلك يدل على عدم التقييد.
ثم إن الشيخ محمد إبراهيم محمد سالم لم يقل ولم يعز إلى شيوخه أنهم حرروا) بريئا (و) هنيئا (اعتمادا على الرجوع إلى أصول "النشر"، وإنما احتجوا بعبارة "النشر" وبالرواية لأنها سنة متبعة، لكن يعكر على احتجاجهم بالرواية أن جميع أسانيدهم (أو أشهرها على الأقل) يمر بالإمام المنصوري، وهو قد صرح بعدم التقييد في) هنيئا (، وذلك يدل على أن التقييد هو استحسان أو "تحرير" من بعض من جاء بعده. حتى أن الأبياري حسب ما يفهم من عبارته في "منحة مولي البر" لم يقيد) بريئا (ولا) هنيئا (، فلعل هذا "التحرير" متأخر عنه. لذلك فإن الشيخ محمد إبراهيم محمد سالم قد استدرك عليه فعلق على هامش "منحة مولي البر" وقيد الكلمتين (انظر: فريدة الدهر: 1/ 869).
فإذا رجعنا إلى أصول "النشر" لا نجد أيضا دليلا جليا على التقييد؛ فعبارة القلانسي في "الإرشاد" نص في عدم التقييد، فقد أتى بقاعدة عامة يدخل فيها كل ما تنطبق عليه وهي قوله (ص: 28 ط. دار الصحابة): "فإنتحركت الهمزة وسكن ما قبلها وكان الساكن حرف مد، فإن السلمي والحنبلي والأهوازييقلبون الهمزة إلى الياء ويدغمون الياء الأولى فيها" ثم صرح بأن الكلمات التي ذكر هي مجرد أمثلة فقال: "كقوله ... "، و"المثال لا يقتضي الحصر". ويمكن حمل عبارة "الكامل" و"المبسوط" على التمثيل أيضا، صحيح أنهما لم يعاطفا بين الكلمتين، لكن الظاهر أنهما أوردا هذه الكلمات لمجرد التمثيل واختارا آية النساء لأنها تصلح مثالا للكلمتين) هنيئا (و) مريئا (؛ ويدل على ذلك أن "المبسوط" مثلا لم ينص على إدغام جميع ما ورد في القرآن من) بريء (؛ فعبارته (ص: 105 ط. مجمع اللغة العربية بدمشق): "وزاد أبو جعفر ترك الهمز من قوله) ثم يرم به بريئا () وأنا بريء () وأنتم بريئون (و) هنيئا مريئا (". فقد نص على إدغام) وأنا بريء (فقط، وقد وردت في موضعين من القرآن، وبقيت سبعة مواضع أخرى وردت فيها) بريء (غير مسبوقة بـ) وأنا (، مثل:) أن الله بريء من المشركين ((التوبة: 3) وهي – في رأيي المتواضع – داخلة في كلامه؛ لأنه إنما ذكر هذه الكلمات لمجرد التمثيل لا للتقييد، وإن لا لنص على خروجها، لأن من عادة المقرئين أن يقيدوا بقيود واضحة، مثل تقييدهم لمسألة تسهيل) رأى (للإصبهاني؛ فلما كان الإصبهاني يسهلها في بعض المواضع ويحققها في بعضها، نص المقرئون نصا جليا على تحديد ما يسهله، وقيدوه تقييدا جليا. وكذلك في مسألة) بريئا (؛ فالمقرئون لم يقيدوها بحالة الرفع أو الجمع، وإن كان أغلبهم لم ينص على حالة النصب، فتبقى على إطلاقها.
والله أعلم.
شيخنا الكريم الدكتور أحمد كوري جزيت خيراً على هذا التوضيح المبارك، والذي يظهر أنه يكاد أن يكون تخصيص إدغام (((هنيئاً))) لأبي جعفر متفقاً عليه بين المعاصرين من حيث الأداء.
ـ[محمد الحسن بوصو]ــــــــ[25 Oct 2010, 11:59 ص]ـ
وشكرا للشيخ الأهدل على التوضيح الموثق، وعلى الترحيب الحار، وكل ما ذكرتموه من حيثيات النقل صحيح. وصادق محمد عبد الله انتهز فترة زيارتي للملكة فرحل إليَّ من اليمن إلى جدة لغرض تعلم علم الرسم. وأخذ مني هو وشقيقه " المحتوي لجامع رسم الصحابة وضبط التابع" و "كشف العمى والرين عن ناظري مصحف ذي النورين" وبابي حذف الألفات والهمزات من "مورد الظمآن" وكامل بيان الخلاف والتشهير لابن القاضي ومنظومة شيخنا محمد المصطفى المشهور بصداف ولد محمد البشير في اختلاف ترجيحات المشارقة والمغاربة.
وأؤكد لكم بأن نص الطيبة لا يساعد على تخصيص حرف النساء لكني قرأت بإدغامه خاصة دون الثلاثة الباقية.
لكم مني أسمى آيات الاعتبار
ـ[محمد أحمد الأهدل]ــــــــ[25 Oct 2010, 12:10 م]ـ
جزيت خيراً فضيلة الشيخ محمد الحسن بوصو على التصديق، فقد كاد قلبي أن ينخلع من الموقف بأن أنقل عن أحد من الشيوخ ما لم يقل حتى عزمت على أن لا أنقل عن أحد بعد اليوم إلا ما سمعته منه مباشرة، أسأل الله أن ييسر لنا الاستفادة من علمكم.
وتقبل مني خالص التحية والتقدير.