تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنّ اهتمام قدامى البلاغيين بالبلاغة العلمية القاعدية، وحرصهم على قضية تعليل المسائل، ووضع الحدود الجامعة المانعة، وضبط المصطلحات ضبطًا دقيقًا يجعل منها قوانين مطّردة تتّفقُ عليها العقول، كلّ ذلك دعاهم إلى إمعانٍ في الفكر، وتعمّق في الاستنباط، ودقّة في الاستدلال، وهذا الجهد والعناء في استنفاد طاقة العقل أثّرَ فيما يبدو في أسلوبهم وطريقة أدائهم، فشاب التعقيد أسلوبهم، وغلب الغموض على كتابات بعضهم ممّا احتيج معه إلى وضع الشروح والتلخيصات لتجاوز هذه الصعاب والعقبات، وتذليل تلك المزالق الأسلوبية التي تولّدت بصورة طبيعية عن امتزاج العُجمة بعلم الكلام، وهو الأمر الذي كان – فيما يبدو – أحدَ أسباب التعقيد في البلاغة العربية.

3 - ارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن:

إنّ ارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن أمرٌ واضحٌ جليٌ في كثير من كتب البلاغة ومصادرها الأساسية، إذ يكفي الاطلاع على عناوين بعضها لإدراك هذه العلاقة القويّة، فدلائل الإعجاز للجرجاني، ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز للرازي، والطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز للعلوي، والتبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن لابن الزملكاني، وغيرها من كتب البلاغة الأساسية التي كانت غايةُ بحثها الوصولَ إلى فهم الإعجاز في القرآن، ولذلك وُجدَ في كثيرٍ منها بابٌ لدراسة الإعجاز، وقد انتقد العلوي أولئك البلاغيين من أمثال السّكاكي وابن الأثير الذين لم يفردوا بابًا في كتبهم لهذا الموضوع، الذي كان يرى فيه الهدف المقصود، والغرض الأساسي من دراسة البلاغة ().

وقضية إعجاز القرآن التي كان العرب الأوائل في زمن التنزيل يُدركونها بفطرتهم اللغوية، أصبحت فيما بعدُ في العصور المتأخرة قضية فكرية تحتاج إلى التعليل العلمي بعد فقدان العرب لتلك الفطرة، وغدت حاجة المسلمين إلى إدراك هذا الإعجاز بالوسائل العلمية متاحة في عصرهم، وفي بيئة المتكلّمين كثرت أساليب الجدال بشأن الإعجاز، ولا سيّما بين المعتزلة وغيرهم من أصحاب المذاهب الكلامية، وأصبحت البلاغةُ وسيلة من الوسائل التي يعلّل بها الإعجاز ويُرد بها على الخصوم، وكانت حاضرة في علم الكلام حضورًا بيّنًا واضحًا.

فهذا الارتباط بين علم البلاغة وقضية الإعجاز القرآني قد أفرز تلك الدراسات والمباحث الجليلة في فهم قضية الإعجاز ومحاولة تعليلها تعليلاً لغويًا وبلاغيًا كما هو الشأن عند عبد القاهر والزمخشري وغيرهما، ولكنّه أفرز في الوقت نفسه غموضًا ومسالك صعبة في علم البلاغة بسبب الاهتمام الزائد بمجادلة الخصوم ومحاولة إقناعهم وإفحامهم، ولذلك عِيبَ على عبد القاهر أسلوبه الجاف الذي يميل إلى التعقيد أحيانًا كثيرة في كتابه دلائل الإعجاز، ولعلّ السبب في ذلك كما يرى محمود شاكر أنّه كان مهتمًا بنقض آراء القاضي عبد الجبار صاحب المغني وطائفة من المعتزلة في مسألة اللفظ ().

فقضية الإعجاز مثلما أثّرت تأثيرًا واضحًا في توجيه التأليف في البلاغة، فإنّها غَدت كذلك وسيلة من وسائل دراسة علم الكلام ()، ومن هنا كانت – فيما يبدو - سببًا من أسباب ذلك التعقيد الذي يُلحظ في بعض مسائل البلاغة وقضاياها الأساسية.

4 - تراجع الأدب وعزلة العربية:

عرف الأدب العربي تراجعًا وضعفًا لاحظه النقاد ودارسو الأدب في العصور التي تلت القرن الخامس الهجري، وكان من نتائج ذلك اهتمام الدارسين – في الغالب الأعمّ - بقوانين البلاغة وشواهدها القديمة دون أن يجدوا في أدب بيئتهم حافزًا لهم يشحذ هممهم، ويدعوهم إلى دراسته وتحليله والاستشهاد به في مباحثهم البلاغية، وترتّب على ذلك كما هو بادٍ في كتب البلاغة ابتعاد البلاغيين المتأخرين عن البحث في عناصر الجمال الأدبي، وكان جلّ اهتمامهم منصبًا على القواعد والقوانين الصارمة التي هي في نظرهم بمثابة الأدوات الضرورية في تلقي الدرس البلاغي وتعلّم أساليبه، وترتّب على ذلك أيضًا جفافٌ في الأسلوب، ووعورة في طرق الأداء كان لهما حظّ في ذلك الغموض والتعقيد اللذين لمسهما الدارسون قديمًا وحديثًا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير