تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ورأى أمين الخولي أيضًا أنّ اللغة العربية بعد القرون الثلاثة الأولى أصابتها عُزلة تامة أو ناقصة عن الحياة الاجتماعية، وكان من نتائج ذلك "أنّ البلاغة العربية حينما جُعلت درسًا تعليميًا يُمارس ويُزاول بطرق مدرسية منظمة، كانت ظروفه تقضي عليه بإيثار منهج تعليمي وأسلوب بحثٍ مدرسي له صفة واضحة معينة، هي الاتجاه إلى الناحية النظرية التعليمية التي تعتمد على الضبط العقلي، والقواعد المطّردة، والحدود الضابطة وما إلى ذلك، الأمر الذي يحقّق الغرض العام التهذيبي المحض، ولا يتحققُ معه في سهولة كثيرٌ من الغرض الأدبي العلمي الذي يُراد من تعلّم اللغة، ومعرفة أدبها وفنّها القولي، فالحالة الاجتماعية كانت تدفعُ إلى هذا المنهج، أو لا أقلّ من أنها ترجّحه" ().

فهذا الذي قرّره الخولي من سعي البلاغيين وميلهم إلى الجانب التعليمي المحض في دراستهم للبلاغة بسبب ما ذكره من عزلة العربية عن الواقع السياسي وواقع الحياة الاجتماعية أمرٌ يحتاجُ إلى مراجعة، لأنّ الضعف السياسي، وما تبعه من خلل في الحياة الاجتماعية أثّر في الوضع الحضاري بصورة عامة، وأثّر بلا شكّ في واقع اللغة العربية، ولكنّه لم يصل بها إلى حَدِّ العزلة التامة أو الناقصة، فقد كانت العربية حاضرة في الكتابات العلمية والتاريخية واللغوية، ويكفي أن نذكر هنا علماء وأعلامًا من أمثال الغزالي (505هـ)، ابن الجوزي (597هـ)، وابن الأثير (637هـ)، وابن تيمية (728هـ)، وابن قيم الجوزية (751هـ)، وابن خلدون (808هـ)، وابن الوزير الصنعاني (840هـ)، وغيرهم ممن له صلة بالبلاغة والكتابة الأدبية، أو بالعربية والشريعة بعامة، لنعرف أنّ العربية كانت هي لغة العلم والكتابة، وأما إيثار المنهج التعليمي القواعدي البحت في تدريس البلاغة وتعليمها فكان نتيجة طبيعية لتراجع الأدب، وللأسباب التي ذكرناها في السابق.

5 - أثر الفلسفة في البلاغة:

قبل الحديث عن هذه القضية المهمّة في مسألة التعقيد وأسبابه، لا بدّ من الإشارة إلى ثلاثة أمور مهمّة: أولاً: كانت أهداف البلاغيين في دراستهم للبلاغة إمّا دينية، أو تعليمية، أو نقدية، فالهدف الديني مرتبط بدراسة الإعجاز البياني في القرآن ومحاولة بيانه وتعليله، والهدف التعليمي هو تعليم الناشئة فنون القول والكتابة بعد شيوع اللحن وفساد الألسنة، والهدف النقدي يتّصلُ بتمييز الكلام الحسن من الرديء، والموازنة بين القصائد والخطب والرسائل، والبحث عن أسرارها الجمالية ()، ولاختلاف الأهداف كان لا بدّ من التفريق بين نوعين من أنواع البلاغة القديمة: البلاغة العلمية، والبلاغة التعليمية، فالعلمية هي التي تُعنى بصياغة القواعد وتفسيرها وتعليلها مع مراعاة التنظير والتفسير والوصف العلمي، وهذا النوع من البلاغة لا يُراعى فيه التسهيل بقدر ما يراعى فيه التبصّر والوصول إلى الحقيقة، ونلحظ ذلك عند السّكاكي مثلاً، وأمّا البلاغة التعليمية فهي التي تسعى إلى تبسيط القواعد وتيسيرها وشرحها وتقديمها إلى المتعلّمين في ثوب مهذّب، كما هو الحال في منهج القزويني والعلوي.

ثانيًا: ضرورة التفريق بين تيسير البلاغة عند القدماء وتيسير البلاغة في العصر الحديث، وذلك لاختلاف الأسباب والظروف، يقول عبد الكريم خليفة:"إنّ الأسباب التي دفعت الدارسين إلى تناول موضوع العربية تيسيرًا أو تسهيلاً، تجديدًا أو إحياءً، مختلفة تمامًا عن الأسباب التي دفعت أئمة العربية في عصر ازدهارها الحضاري للتصدي لهذا الموضوع بعينه تيسيرًا أو تجديدًا أو إحياءً" ().

ثالثًا: ضرورة التفريق في هذا السياق أيضًا بين مسألتين: فلسفة البلاغة، والبلاغة المُفلسفة، فالبلاغة المفلسفة يُقصد بها البلاغة التي امتزجت بالأفكار والتصوّرات والمصطلحات الفلسفية، فهي بلاغة تختلط بالفلسفة حتى صارت كأنها جزءٌ منها، وأمّا فلسفة البلاغة فالمقصود منها تعليل القواعد البلاغية، والبحث عن أسرارها وأهدافها وغاياتها، وما فيها من قيم جمالية وفكرية، مثلما يقال في علوم أخرى فلسفة التربية، وفلسفة الأديان، وغير ذلك ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير