تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ففلسفة البلاغة بمفهومها الحديث تعني دراسة القواعد البلاغية وتعليلها علميًا ومنطقيًا، وهي بمثابة علم الأصول الذي يبحث في قواعد الأدلة الشرعية العامة، وهذه هي الفلسفة التي قد بدأها عبد القاهر حين استفاد من المعطيات العلمية والنقدية التي كانت قبله، وحاول وضع القواعد التي تفسّر وتكشف عن أسرار الجمال في الكلام البليغ عامّة، وفي القرآن الكريم على وجه الخصوص، ثمّ استمرت الدراسات من بعده في هذا الاتجاه نفسه، إلى أن انحرف بعضها عن مجالها الذي حدّده عبد القاهر وهو دراسة النصوص الأدبية.

لقد أشارت دراسات كثيرة إلى أنّ من أسباب التعقيد الذي دخل إلى موضوعات البلاغة تأثر البلاغيين وفي مقدمتهم عبد القاهر الجرجاني بالفلسفة اليونانية ()، وقد كان من نتيجة ذلك أن تسرّب كثيرٌ من المسائل الفلسفية المعروفة عند فيلسوف اليونان أرسطو إلى البلاغة العربية، وفضلاً على ذلك كلّه كان لدخول علوم أخرى ساحة البلاغة مثل النحو وعلم الأصول والإعجاز- وهي علوم تأثرت أيضًا بالفلسفة وعلم الكلام – إسهامٌ ما في ذلك التعقيد الذي شمل المنهج والموضوعات على حدٍ سواء، ويظهر ذلك من جهة كثرة التعليلات، والإسهاب في التقسيمات، والوعورة في المصطلحات، والجفاف في الأسلوب، كما أنّها أسهمت إلى حدّ ما في إبعاد علم البلاغة عن موطنه الأصلي الأدب، فقد كان القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكلام العرب المنظوم والمنثور هو مادة البلاغة وجوهرها في بداية نشأتها الأولى، حتى وصلت إلى مرحلة النضوج والاستواء في عهد عبد القاهر الجرجاني.

ومع أنّ الدارسين المحدثين قد بحثوا هذه المسألة بحثًا مستفيضًا، وقدّموا أحكامًا جاوز بعضها حدود الإنصاف، إلاّ أنّ تباين الآراء بشأنها يجعل من البحث في تلك الأدلة والآراء أمرًا مهمًا في سياق البحث في قضية تيسير البلاغة في تراثنا القديم، وبدايةً يمكن القول بأنّه قد لا تكون هناك أيّ فائدة ترجى في الحكم على البلاغة القديمة بالجمود والعقم بسبب تأثرها بالفلسفة سوى الإلغاء والإقصاء لجهود كبيرة قدّمها الأعلامُ من قدامى البلاغيين في سبيل خدمة هذا العلم وتطويره.

لقد كان تأثير الفلسفة وعلم الكلام في علم البلاغة أمرًا بيّنًا تسنده أدلة من كتابات العلماء وأقوالهم، ويكفي أن نشير هنا مثلاً إلى ما صنعه حازم القرطاجنّي في كتابه منهاج البلغاء ()، حين سعى إلى تطبيق نظريات أرسطو النقدية والبلاغية في محاولة فهم الشعر العربي وتقويمه جماليًا. ولكنّ هذا الصنيع على ما فيه من خصوصية وجرأة، لا يمكن تعميمه على البلاغيين الآخرين، ومع ذلك كلّه فهو لا يسلب القرطاجنّي أصالة الإبداع الفكري، وقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أنّ أعمال أفلاطون وأرسطو كان لها تأثير كبير في فكر الكثير من دارسي البلاغة، وهو أمر ظاهر في كتابات البلاغيين الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية ().

إنّ الابتعاد عن مجال البلاغة وجوهرها، والخروج عن إطارها باعتماد موضوعات فلسفية ومنطقية مجرّدة، واستخدام أساليب المناطقة والمتكلّمين في كتابات البلاغيين المتأخرين، هو أمرٌ أسهم في شيءٍ من التعقيد الذي لحق بالبلاغة، ولكنّه أمرٌ كان له ما يسوّغه في البلاغة القديمة، وخاصّة إذا علمنا أنّ هؤلاء البلاغيين كانوا في غالبيتهم من الفقهاء والأصوليين والمتكلّمين، ولم يكونوا من الأدباء أو الشعراء المعروفين في فنون النظم والكتابة الأدبية.

لقد اتخذت آراء الدارسين بشأن هذه القضية اتجاهين مختلفين: الاتجاه الأول منهما يرى أنّ تأثير الفلسفة في البلاغة كان كبيرًا، والاتجاه الثاني يرى أنّ ذلك التأثير كان محدودًا، وربما معدومًا عند عبد القاهر مؤسّس علم البلاغة، وسنعرض الآن لبعضٍ من تلك الآراء والأفكار في سياقٍ قد يساعدنا في استجلاء مسألة التعقيد وأسبابها في البلاغة القديمة.

(1) البلاغة العربية المُفلسفة:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير