تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يمثّل الاتجاه الأول طه حسين الذي بدأ بالرأي القائل بتأثير أرسطو والمنطق اليوناني عامّة في البلاغة العربية، ثمّ تبنّى بعض تلامذته هذا الرأي وأشاعوه في دراساتهم مع شيء من البسط والتوسّع في الأدلّة والتحليل والمناقشة، قال طه حسين:"لم يكن عبدُ القاهر الجرجاني عندما وضعَ في القرن الخامس كتابَ "أسرار البلاغة" المعتبر غرّة كتب البيان العربي إلاّ فيلسوفًا يجيدُ شرح أرسطو والتعليق عليه، وإنّا لنجدُ في كتابه المذكور جراثيم الطريقة التقريرية التي أودت بالبيان العربي في القرن السادس …ولا يسعُ من يقرأ دلائلَ الإعجاز إلاّ أن يعترف بما أنفقَ عبد القاهر من جهدٍ صادقٍ خصبٍ في التأليف بين قواعد النحو العربي، وبين ما لأرسطو في الجملة والأسلوب والفصل من الآراء العامة، وقد وُفق عبد القاهر فيما حاول توفيقًا يدعو إلى الإعجاب" ().

فهذا رأيٌ جازمٌ في تأثير أرسطو وفلسفته في البلاغة العربية، وهو محتاجٌ إلى أدلة كثيرة تُسنده وتقوّيه، وهو ما لم يفعله طه حسين، فجاء أمين الخولي وتوسّع في استجلاء هذه القضية بالبحث عن الأدلة التي تدعّم هذا الرأي، وتوصّل إلى أنّ قضية تأثير الفلسفة الكلامية في ظهور البلاغة قضية صريحة حدّث عنها المتقدّمون، واستدل بقولين أحدهما للجاحظ والآخر لابن تيمية لإثبات أنّ القدماء قد تحدّثوا عن هذا التأثير وأشارُوا إليه، وتوصّل في خلاصة بحثه إلى أنّ الشعور بتأثير خطابة أرسطو وشعره، أو تأثير الفلسفة عامة شعورٌ قديمٌ، ولم يقف عند القول بالتأثير في البلاغة، بل جاوز ذلك إلى الشعر والكتابة ذاتهما ().

وقد لا يتّسع هذا المقام لمناقشة آراء الخولي بشأن حديث القدماء عن تأثير الفلسفة في البلاغة، ولكنّ الأسباب التي ذكرها قد تستخدمُ أيضًا في رفع الملامة عن قدامى البلاغيين الذين كانوا يكتبون لأهل عصرهم، مُنسجمين مع بيئتهم الثقافية، وظروفهم الاجتماعية، ولا يمكن وصفهم بحال من الأحوال بالجمود، وقلّة الفائدة، وندرة الإبداع، ووضع بلاغتهم في دائرة التراث الميّت الذي عفا عليه الزمن، وقد يكون النظر إلى جهود السابقين مشوبًا بما يشعر بالاستخفاف بسبب تأثرهم بالفلسفة كما هو الشأن عند البرقوقي الذي قال متحدثًا عن الذين جاءوا بعد القزويني:"ظهر حوالي ذلك قومٌ درجوا في عشّ الفلسفة، فوضعوا على الكتاب الشروح والحواشي، وسلكوا بهذا العلم مسلكًا تنكره اللغة ويستهجنه البلغاء، فأغمضوا عن أسرار البلاغة، وتشبثوا بالفلسفة، وحمي بينهم وطيس المناظرة، حتى أتوا على الذَّمَاء الباقي من هذا العلم" ().

وذكر شوقي ضيف أنّ فلسفة أرسطو قد تسرّبت إلى كتابات عبد القاهر عن طريق أساتذته وثقافة عصره التي عرفت مثل تلك الآراء، ورأى في عبد القاهر عالمًا نحويًا كبيرًا قد أشربت روحُه كلَّ ما كتبه أساتذته من أمثال أبي علي الفارسي، وابن جنّي، فاضطرمت مباحثهم في نفسه، واضطرمت معها مباحث البلاغيين من قبله، ومباحث "الخطابة"، و"نقد الشعر"، فكان كلامُه في بعض المواضع من كتبه شديدَ الصلة بكلام المناطقة، ممّا يدلّ على تثقّفه بالمنطق واصطلاحاته وقوانينه ().

وكان من نتائج هذا التأثّر بالمنطق اليوناني في نظر شوقي ضيف أنّ "أبحاث عبد القاهر في كلّ هذه الأبواب –حين تصفّيها من عباراته المنمّقة وحماسته البالغة لنظريته – لا تجدُ فيها إلاّ هذا النحو المعقّد المتفلسف الذي يحمّل اللغة ما لا تطيق، والذي يستحيل إلى ضربٍ من التجارب العقلية، والتأويلات الفلسفية لأساليب العربية" ().

فعبد القاهر في نظر هؤلاء الذين سقنا بعضًا من آرائهم لم يكن بعيدًا عن أجواء المنطق اليوناني، وهو الأمر أدى به اتّباع تلك المسالك الوعرة، والأساليب الجافة التي ظهرت في منهجه وأسلوبه، ولاسيما في طول الجملة، والإفراط في التجريد والمجاز المستغلق، ثمّ إنّ حديث هؤلاء عن تأثر البلاغة بالمنطق اليوناني هو حديث عن التصوّرات المثالية لما يجب أن تكون عليه بلاغة القدماء، ولذلك فقد وقع هؤلاء الدارسون في محذور الحكم على الشيء بخصائص غيره، لأنّ مزج الدراسة الفنية بأشياء من الفلسفة والمنطق كان نتاجًا طبيعيًا للأحوال التي عاشتها الأجواء الأدبية والبلاغية في العصر الوسيط ()، فضلاً على عدم التفاتهم إلى السمات الإيجابية في مذاهب أولئك العلماء وجهودهم في خدمة علم البلاغة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير