تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفق معطيات عصرهم.

(2) دفاع عن البلاغة القديمة:

يرى الاتجاه الثاني أنّ تأثير الفلسفة وعلم الكلام في البلاغة العربية كان محدودًا وربّما معدومًا عند عبد القاهر، ومثّلَ هذا الاتجاه أكثرُ من دارس منهم أحمد بدوي الذي انتهى في أبحاثه إلى ما يشبه اليقين من أنّ عبد القاهر لم يكن على صلة بكتابي أرسطو "الخطابة" و"فن الشعر"، فالموازنة بين ما كتبه أرسطو وما كتبهُ عبد القاهر في مسألة الاستعارة - مثلاً - تُري أنّ الصلة بين الدراستين إذا تشابهت في القليل فذلك لأنّ طبيعة العمل الفنّي تتشابه في اللغات بطبيعتها، ولذلك لم يستفد عبد القاهر كثيرًا ممّا كتبه أرسطو ()، وقارن أحمد بدوي بين موقفي أرسطو وعبد القاهر في مسألة فهم المعنى، وهي مسألة جوهرية في البلاغة العربية، فقال:"وقرّر أرسطو في بعض فصول الكتاب أنّ لذة الفهم الخالي من العناء هي إحدى اللذات الطبيعية لبني الإنسان، وأنّ الكلام الذي يعطينا مدلولَه في يسرٍ يهبُ لنا أكبر مقدار من اللذة العقلية، وهذه هي المزية الكبرى للمجاز". وعلى النقيض من ذلك كان رأي عبد القاهر الجرجاني الذي قرّر"أنّ المعنى إذا أتاك ممثّلاً فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمّة في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أظهر، واحتجابه أشدّ" ().

وأمّا محمد زغلول سلاّم فرأى أنّ تأثير القرآن في تربية الذوق العربي وصقله في محاولة كشف جمال الأساليب العربية أمرٌ واضحٌ لا يخفى، ولا يغيّر منه القول بأنّ بلاغة أرسطو قد تدخّلت في الميدان، فبلاغة أرسطو كما انتقلت إلى الفكر العربي، وبصورتها التي عرفت بين علماء العرب- وهي صورة مشوّهة منتقصة، فضلاً على أنّها لم تتمكّن من العقول، ولم تطمئن إلى طبائع العرب، لاختلاف البيئة والأدب والذوق- لا يمكن أن تكون آثارها ذات خطر كبير، أو جدوى كجدوى الأثر القرآني ()، وهو الرأي نفسه الذي تبناه إبراهيم سلامة في سياق إثباته أصالة البلاغة العربية وتميّزها عن بلاغة اليونان بمصدرها الأساسي القرآن الكريم فقال:" وبعد فإنّا لو سلّمنا أنّ الطباق يوناني، لأنه مبني على التضاد، والتضاد منطقي، وإذا كانت المقابلة يونانية لأنها مبنية على التشابه، والدلالة بالتشابه وبالمثل دلالة منطقية يعرفها أرسطو، وإذا كان الجناس يونانيًا، لأنه مخاتلة، ولأنّه تلاعب بالألفاظ، وإذا كانت الاستعارة نفسها والتشبيه نفسه يونانيين، لأنّ الأولى خروج الألفاظ تحت تأثير الانفعال، ولأنّ الثاني دلالة طبيعية يعمد إليها الإنسان – حتى البدائي – إذا أراد المناظرة والمماثلة والتدليل على أن الغائب مثل الحاضر، وإنّ كلّ هذه المعاني - زيادة على أنها إنسانية وحيوية في كلّ لغة حية - تتّجه إليها الأذهان الحية إذا وجد في طبيعة اللغة وفي حيويتها ما يساعد على ذلك" ().

ومع أنّ إبراهيم سلامة لا يُنكر تأثير الفلسفة اليونانية في البلاغة العربية، إلاّ أنّه يرى في ذلك بعدًا حضاريًا يدلّ على قوّة التفكير العربي، واتساع أفقه، وقبوله للثقافات الأجنبية، ويدلّ من ناحية أخرى على الشخصية وقوتها، هذه الشخصية التي جعلت البلاغيين يتخيرون فيما ينقلون، ويدفعهم هذا التخير أحيانا إلى مخالفة ما ينقلون عنه… وهكذا فعل العرب في بلاغتهم، فقد زادوا على الأبواب القليلة التي عرفوها من بلاغة أرسطو زيادة لم تخطر على بال، ولم ينقلوا إلى بلاغتهم إلا ما اتّفق مع أدبهم ().

وانتهى البحث في هذه المسألة عند السيد عبد الفتاح حجاب إلى أنّ صعوبة المنهج في بلاغة عبد القاهر مردّها محاولته إثبات الإعجاز القرآني، فقد كان متحمّسًا في إثباته لنظرية النظم باعتبارها مرجع الإعجاز، ولذلك فقد اصطبغ كلامه في كثير من الأحيان بصبغة جدلية حتمتها طبيعة البحث، وظروف نشأته …ومع ذلك فقد أضفى على كلامه الجاف والصعب من روحه الأدبية، وحسّه الفني، ما خفّف كثيرًا من صرامته وتجهمه (). ومن هنا فإنّه إذا كان ذوقُنا اللغوي المعاصر لا يستسيغ بسهولة مثل هذه الفروق فليس معنى ذلك أنها تمحّلات فلسفية فكرية، لا تعتمد على أساس من واقع اللغة ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير