تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن الدارسين الذين ينفون نفيًا قاطعًا تأثّر بلاغة عبد القاهر بفلسفة أرسطو فضل حسن عباس، فقد ردّ على طه حسين والقائلين بتأثير أرسطو في البلاغة العربية، وتوصّل بعد البحث إلى أنّ عبد القاهر كان بعيدًا كلّ البعدِ عن فيلسوف اليونان، وكلّ المحاولات التي بُذلت لتُثبت تتلمذ عبد القاهر لأرسطو تقوم على التكلّف، والتمحّل، والشطط، والإغراب، والإدعاء، والتخمين، والاستنتاج من مقدّمات غير ثابتة ()، واستدل على ذلك بأنّ ثقافة عبد القاهر لم تكن من ذلك النوع الممزوج بالمنطق، فلم يعرف عنه تنكّره لمن قبله من العلماء، بل على العكس من ذلك، أخذ عن الكثيرين وذكرهم، ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى أرسطو (). وحاول إثبات أنّ عبد القاهر لم يتأثّر بفلسفة أرسطو التي كانت قد انتشرت في عصره، بدليل أنّه ذكر المصادر التي أخذ عنها، ولم يذكر كتابي أرسطو، هذا كلّه قد لا يكون كافيًا في الاستدلال على نفي التأثّر، لأنّه ربما يكون قد أفادها من أساتذته، أو أنّه اطلع عليها مباشرة ولم يذكرها في ذلك المقام الذي عُني فيه بإثبات الإعجاز القرآني وتعليله لغويًا وبيانيًا، ومع ذلك كلّه فإنّ تأثّر عبد القاهر بالمنطق اليوناني إذا كان قد ثبت بالفعل؛ فإنّه لا يغيّر شيئًا في تلك الجهود التي بذلها في صياغة البلاغة العربية من جديد، وتحديده لنظرية النظم بطريقة علمية فيها كلّ عناصر الأصالة والإبداع.

ولعلّ من الآراء التي وازنت بين الاتجاهين السابقين ما ذكره أحمد مطلوب في هذا الشأن حيث قال:"مهما قيل في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام فإنها أثّرت في البلاغة العربية، وفي كتبها أمثلة من ذلك التأثير، ولن نذهب مذهب المنكرين ولا مذهب المتطرّفين، وإنما نقول إن الحياة الجديدة التي عاشها العرب في العصر العباسي كانت زاخرة بثقافات مختلفة ولا بدّ أن تؤثر هذه الثقافات فيما أنتجوه، وقد رأينا أن المتكلّمين أثّروا في البلاغة وكان للفلسفة والمنطق وكتب اليونان أثرٌ لا ينكر، وفي حديثنا عن بشر بن المعتمر، والجاحظ، وقدامة، وصاحب البرهان، وعبد القاهر، ما يغني عن البيان، ولكنّ الأثر لم يكن عظيمًا في هؤلاء لأنّهم عاشوا في عصر ازدهار الأدب، فظلّت البلاغة بعيدة عن هذا التأثير العظيم" ().

ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى تلك الآراء القيّمة التي ساقها محمود شاكر في تقويمه للبلاغة العربية القديمة، وكتب التراث ورجاله بعامة؛ فقد ذكر في سياق ردّه على أولئك الذين يستهينون بما كتبه البلاغيون بعد السكاكي بأن هذه الكتب جميعًا منذ السكاكي إلى الدسوقي كانت تقعيدًا لبعض ما كتبه عبد القاهر في كتابيه في البلاغة، فهو أول من أسّس علم البلاغة تأسيسًا بالغ الدقة، ومن طلب البلاغة منهما وحدهما، فقد وقع في بحر تتلاطم أمواجه، راكبه على غرر الغرق، والذي يضمن لراكبه النجاة هم الذين قعّدوا قواعد علم البلاغة، وكتبوا الكتب والحواشي وضمنوها درراً لا يُعرض عنها إلاّ جاهل، ولا يذمّها ويحثّ الناس على الإعراض عنها، إلاّ من استهان بالعلم والعلماء ().

استنتاج:

إنّ النظر المتأني في آراء الدارسين وأدلتهم، وما أسهموا فيه في توضيح هذه القضية يقودُ إلى حكم وسط بين المنكرين والمغالين، فتأثير الفلسفة وعلم الكلام في علم البلاغة أمر بيّن واضحٌ في الكثير من كتابات البلاغيين ولا سيّما السكاكي، وتؤكده حقيقة كون أولئك البلاغيين في غالبيتهم من المتكلّمين والأصوليين والفقهاء، ولكنّ حجمَ هذا التأثير لم يكن كبيرًا كما يرى أولئك المغالون، وإنّما كان ضمن حدود التأثّر والتأثير التي تعرفها الثقافات والعلوم في كلّ العصور، ثمّ إنّ الخصوصية الدينية والثقافية للعلوم عند العرب والمسلمين تنبني على خُصوصية مصادرها ومرجعيتها العليا المتمثّلة في القرآن الكريم، والسنّة النبوية، والتراث الحضاري للأمّة، ومن هنا فإنّ الاستفادة من الفلسفة والمنطق اليوناني كانت قائمةً على منهج الانتقاء، والاستفادة العلمية الواعية، وهو المنهج الذي أسهم في تطوّر علم البلاغة في الجوانب المنهجية والنظرية، وأعطاه نكهة العلم بعد أن علّل العلماء وفي مقدّمتهم عبد القاهر كثيرًا من المسائل العالقة تعليلاً علميًا يقبله المنطق والعقل، ولا ينفر منه الذوق، وإذا كان لكلّ عصرٍ ظروفه النفسية والاجتماعية التي تدفع به إلى اتخاذ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير