تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إطار ونمط في الأدب والعلم يُؤثره على غيره من الأنماط والأطر، وإذا كانت الأساليب تختلف باختلاف الذهن والثقافة والنوع والغرض والحال والشخص الذي يتحدّث كما يرى أحمد حسن الزيّات ()، فإنّ القرن الخامس الهجري وما بعده كان بحاجة ماسة إلى نظريات علمية تفسّر قضية الإعجاز القرآني، وتبيّن أسرار الجمال في الأدب، وخاصّة بعدما فقد النّاسُ في ذلك العصر الفطرة اللغوية، وهي من أهمّ أدوات الفهم والإدراك التي فهموا بها بلاغة القرآن في عصر التنزيل.

ولكن مع هذا الأثر الفلسفي الذي أسهم في تطوّر علم البلاغة وجدنا هناك آثارًا أخرى سلبية خرجت بالعلم عن إطاره ومجاله أو كادت، كان منها استخدام البلاغيين لمصطلحات ليست من علم البلاغة في شيء، واتباعهم للتقسيمات المعروفة في علم الكلام، وابتعادهم في عرض مادتهم البلاغية عن الأسلوب الأدبي الجميل، واهتمامهم المتزايد في الإطار العام بالجانب النظري على حساب الجانب التطبيقي وتحليل النصوص، ولعلّ هذه الأسباب كانت محفّزة لابن الأثير – الذي كان شديد النفور من الفلسفة والمنطق – إلى السعي من أجل إعادة البلاغة العربية إلى مهدها الأول، وهو الأدب بنصوصه الجميلة قديمها وحديثها، والعودة بها إلى المنهج الأدبي الذي يميل إلى تحكيم الذوق الموضوعي في دراسة النصوص.

ثانيًا: ملامح تيسير البلاغة في المصادر البلاغية القديمة:

أشار البلاغيون القدامى في مقدّمات مصنّفاتهم إلى منهجهم في دراسة البلاغة، وتحدّثوا عن الإضافات التي أضافوها إلى السابقين بما يميّز منهجهم، ونجد في بعضٍ من تلك المقدّمات من أشار في منهجه إلى قضية التيسير والإيضاح لمسائل علم البلاغة، تلك المسائل التي لوحظت الدقّة في أبحاثها، والوعورةٍ في مسالكها، وهو أمرٌ كان يحتاج معه الدارس الراغب في معرفة أسرار البلاغة واستيعاب دلائلها، إلى سلوك أصعب السبل وأعسرها، فهذا القزويني يتحدّث في تلخيصه عن منهجه الرامي إلى التيسير والتبسيط فيقول:"كان القسم الثالث من مفتاح العلوم الذي صنّفه الفاضل العلامة أبو يعقوب يوسف السكاكي أعظم ما صُنف فيه من الكتب المشهورة نفعًا، لكونه أحسنها ترتيبًا، وأتمّها تحريرًا، وأكثرها للأصول جمعًا، ولكنّه غير مصون عن الحشو والتطويل والتعقيد، قابلاً للاختصار، مفتقرًا إلى الإيضاح والتجريد، ألفت مختصرًا يتضمن ما فيه من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد، ولم آل جَهدًا في تحقيقه وتهذيبه، ورتبته ترتيبًا أقرب تناولاً من ترتيبه، ولم أبالغ في اختصار لفظه تقريبًا لتعاطيه، وطلبًا لتسهيل فهمه على طالبيه" ().

فقد أشار القزويني صراحة إلى قضية التعقيد في بلاغة السكاكي فضلاً على الحشو والتطويل، وذكر أنّه يهدف إلى التسهيل والإيضاح، وتقريب البلاغة إلى الدارسين في ثوب مهذّب جديد، وكان من العلماء الذين سعوا أيضًا إلى أن يكون منهجهم متميّزًا في هذا الجانب يحيى بن حمزة العلوي حيث قال في كتابه الطراز:"أرجو أن يكون كتابي هذا متميّزًا عن سائر الكتب المصنّفة في هذا العلم بأمرين: أحدهما: اختصاصه بالترتيب العجيب، والتلفيق الأنيق الذي يُطلع الناظر من أول وهلةٍ على مقاصد العلم، ويفيده الاحتواء على أسراره، وثانيهما اشتماله على التسهيل والتيسير، والإيضاح والتقريب، لأنّ مباحث هذا العلم في غاية الدّقة، وأسراره في نهاية الغموض، فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان" ().

والعلوي متأثّرٌ بابن الأثير كبير التأثّر ()؛ فقد أخذ عنه وسار على نهجه في الإكثار من تحليل الشواهد والنصوص، وقد كان ابن الأثير أحد الداعين بالفعل لا بالقول إلى تيسير البلاغة والعودة بها إلى الذوق الأدبي، فقد قال في المثل السائر:"واعلم أيّها الناظر في كتابي أنّ مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم" ()، ولعلّه يقصد بالتعليم ما يُعطى للدارس من نظريات وقواعد علمية ليحفظها ويعيها، وهو ما كان يسميه بالآلات أيضًا حيث قال:"ومَلاكُ هذا كلّه الطبع فإنّه إذا لم يكن ثمّ طبع فإنّه لا تغني عن تلك الآلات شيئًا" ()، ومن أجل هذا كلّه حمل حملة عنيفة على المنطق والفلسفة ورأى في رجالها من أمثال ابن سينا وغيره رجالاً مغرورين، وأنّ كلامهم لغوٌ لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئًا ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير