ويُوصلُ البحث في أسباب هذا التعقيد والغموض إلى أنّ تأثير الفلسفة وعلم الكلام في البلاغة هو السبب الأبرز الذي عُني به الدارسون المحدثون، ومع أهمّيته وتأثيره في البلاغة العربية؛ فإنّ هناك أسبابًا خارجيةً أخرى لا تقلّ أهمّية عنه كان لها أثرها البيّن في هذه القضية، مثل نشأة البلاغة في بيئة المتكلّمين والأصوليين، وكون الأكثرية الغالبة من علماء البلاغة من غير العرب، وارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن، وتراجع الأدب وعزلة العربية في العصور المتأخرة، لا سيّما بعد القرن الخامس الهجري.
وكان ابتعاد بعض البلاغيين عن مجال البلاغة وجوهرها، والخروج عن إطارها بالاعتماد على موضوعات فلسفية ومنطقية مجرّدة، واستخدام أساليب المناطقة والمتكلّمين في كتاباتهم، هو الأمر الذي أسهم في شيءٍ من التعقيد الذي لحق بالبلاغة، لاسيّما في اطراد المصطلح البلاغي وتنوّع استخداماته، ولكنّه أمرٌ كان له ما يسوّغه في البلاغة القديمة، وخاصّة إذا علمنا أنّ هؤلاء البلاغيين كانوا في غالبيتهم من الفقهاء والأصوليين والمتكلّمين والفقهاء.
إنّ الخصوصية الدينية والثقافية للعلوم عند العرب والمسلمين تنبني على خُصوصية مصادرها ومرجعيتها العليا المتمثّلة في القرآن الكريم، والسنّة النبوية، والتراث الحضاري للأمّة، ومن هنا فإنّ الاستفادة من الفلسفة والمنطق اليوناني كانت قائمةً على منهج الانتقاء، والاستفادة العلمية الواعية، وهو المنهج الذي أسهم في تطوّر علم البلاغة في الجوانب المنهجية والنظرية، وأعطاه نكهة العلم بعد أن علّل العلماء وفي مقدّمتهم عبد القاهر كثيرًا من المسائل العالقة تعليلاً علميًا يقبله المنطق والعقل.
وقد عُني قدامى البلاغيين بقضية التيسير في مصنّفاتهم، وتعرّضوا لها كلٌّ بمنهجه الذي ارتضاه لنفسه، ولكنّه التيسير الذي يناسبُ عصرهم ويلبّي حاجات الناس في ذلك العصر، وبالأسلوب الذي رأوه مناسبًا لأذواقهم، وهم سواء وُفقوا في ذلك أم لا؛ فإنّهم كانوا يكتبون استجابة لما يتطلّبه محيطهم الاجتماعي والثقافي والمعرفي، وقد تجلّت وسائل التيسير عند قدامى البلاغيين أكثر ما تجلّت في التلخيصات والشروح، وأمّا مظاهر التيسير فقد تجلّت في عناصر مختلفة يتعلّق بعضها بالمنهج، وبعضها بالموضوعات، وبعضها بالمصطلحات، وبعضها الآخر بالشواهد والنصوص.
وبذل علماء البلاغة الأقدمون جهودًا كبيرةً في صياغة القواعد والنظريات التي تشكلّ بها علم البلاغة وتطوّر على مدى الأجيال. واشتهر من المتأخرين الذين سعوا إلى التيسير: القزويني الذي برع في ترتيب المسائل وعرضها بأسلوب واضح، وابن الأثير الذي اهتم بالنصوص الأدبية وتحليلها اعتمادًا على الذوق الفنّي، والعلوي الذي استند في تيسيره للبلاغة على ثلاثة عناصر هي: تنظيم المادة البلاغية، وتحديد المصطلحات البلاغية بأسلوب جديد، وإيراد الشواهد والنصوص المتنوّعة وتحليلها.
الهوامش
. التلخيص في علوم البلاغة، ضبط وشرح عبد الرحمن البرقوقي، ط دار الفكر العربي (د. ت)، ص 21.
. التبيان في علم البيان المطّلع على إعجاز القرآن، تحقيق أبو القاسم عبد العظيم، ط1 المطبعة السلفية بنارس الهند 1987، ص 26.
. الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، ج1 ص 6.
.انظر مثلا: ضيف، شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، ط دار المعارف، القاهرة (د. ت)، ص 272، 273.
. انظر السيد، شفيع، البحث البلاغي عند العرب، ط2 دار الفكر العربي القاهرة 1996، ص 115 وما بعدها.
.الخولي، أمين، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، ط1 دار المعرفة القاهرة 1961م، ص 129.
. انظر الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ط دار الفكر العربي بيروت (د. ت)، ج1 ص 139.
. مطلوب، أحمد، مناهج بلاغية، ط1، وكالة المطبوعات الجامعية، الكويت 1973، ص 255.
.مفتاح العلوم، ص 81.
. المقدّمة، ط1 دار الفكر العربي بيروت، 1997، ص 421،422.
. نفسه: ص 443.
. الخولي، أمين، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب: ص 130.
. المطول (الشرح المطول على التلخيص)، ط تركية 1330هـ، ص 316.
. انظر الطراز المتضمن لأسرار البلاغة: ج3 ص 368.
¥