تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نقل ابن منظور في لسانه عن ابن الأعرابي: الولي: التابع المحب. فلعل ورود هذه اللفظة مع إرادة المقارنة، لفتة إلى كون العاقبة بمحض اختياره وإسرافه في غيه وضلاله، فإن التابع المحب إنما يتبع بمحض اختياره ورغبته، فلا مكره له، وهو يستطيع الترك بمحض اختياره أيضاً.

صدود وتهديد:

بعد أن جرت النصائح والمواعظ من إبراهيم بسمع أبيه، {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم}، يقول أبو السعود:" (قال) استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عندما سمع منه -عليه السلام- هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقيل: قال مصرّاً على عناده: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ " ([2]).

وجاء ردّه في سياق استفهام إنكاري تعجبي، ينكر على إبراهيم تجافيه وتركه عبادة آلهته، ويتعجب من صنيعه. يقول ابن عاشور: "وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه، إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف، لقصد تشريف المضاف إليه"، وفي ذلك من الغرور والتمسك بالكفر، ويقول أيضاً: "والنداء في قوله: (يا إبراهيم) تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأن المتعجب من فعله مع حضوره، يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، ... فالمتكلم ينزله منزلة الغائب، فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله: {يا إبراهيم} ".

وجملة {أراغب أنت} جملة اسمية، مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسد الخبر، وبهذا يكون الفاعل في حكم المسند إليه، والمبتدأ في حكم المسند. "فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء، هو مقتضى كون المقام يتطلب جملة اسمية للدلالة على ثبات المسند إليه، ويتطلب الاهتمام بالوصف دون الاسم، لغرض يوجب الاهتمام به، فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أولا، ً والإتيان بالاسم ثانياً ... والتحقيق أنه في قوة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد، فقال: " قدم الخبر على المبتدأ في قوله: {أراغب أنت عن آلهتي} لأنه كان أهم عنده " ([3])، فمناط الاستفهام الإنكاري رغبة إبراهيم عن الأصنام.

وبجهالة وفظاظة يهدد إبراهيمَ-عليه السلام-: {لئن لم تنته لأرجمنك}، جاءت فيه "اللام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمه إن لم ينته عن كفره بآلهتهم، ... وإسناد أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه، يحتمل الحقيقة؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكماً في قومه، ويحتمل المجاز العقلي؛ إذ لعله كان كبيراً في دينهم، فيرجم قومه إبراهيم استناد لحكمه بمروقه عن دينهم" ([4])،وقيل في {لأرجمنّك} رجم اللسان، أي: لأشتمنّك وأظهرنّ أمرك ([5])، وجاء في لسان العرب، مادة (رجم): "كلام مرَجَّمٌ: عن غير يقين، وفي التنزيل العزيز: {لأَرْجُمَنَّكَ} أَي: لأَهْجُرَنَّكَ، ولأَقولنَّ عنك بالغيب ما تكره، والمَراجمُ الكلِمُ القَبيحة" ([6]).

{واهجرني مليّا}، " (واهجرني) عطف على محذوف يدل عليه التهديد، أي: فاحذرني واتركني، وإلى ذلك ذهب الزمخشري" ([7])، و {مليّا} إما ظرف زمان، أي: زمناً طويلاً، أو حال، أي: سالماً سويّاً، وهذا تفسير ابن عباس ([8])، ومجيئه على القول الثاني يرد على أنّ الكلمة يراد بها التمتع، ومنه قولهم: تملّى إخوانه، أي: تمتع بهم، والمقصود: هجراً تتمتع فيه.


([1]) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير، انظر تفسير الآيات.
([2]) تفسير أبي السعود- سورة مريم:46.
([3]) التحرير والتنوير- سورة مريم، ص:2604.
([4]) المرجع السابق، ص:2605.
([5]) فتح القدير- سورة مريم:46.
([6]) لسان العرب/مادة: رجم.
([7]) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل الألوسي- سورة مريم/ج:16،ص:99.
([8]) الدر المصون في علم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي/ج:10،ص:139.

ـ[قبة الديباج]ــــــــ[26 - 07 - 2007, 05:20 م]ـ
الدرجة الخامسة: ختم الحوار بهدوء، وعدم الانفعال:
وهنا درس في الحلم والبر، {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي}، فلم يعارض إبراهيم أباه بسوء الرد، {سلام عليك} تحية توديع، وقيل: أمنة لك منّي، لأنه لم يؤمر بقتاله، وقيل معناه: الدعاء له بالسلامة، استمالةً له ورفقاً به، {سأستغفرُ لك ربي}، ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه، تألفاً له، وطمعاً في لينه وذهاب قسوته:

والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه ([1])

وهذا الاستغفار إذ لم يكن إبراهيم تلقى النهي عن الاستغفار للمشرك، فقد حكى الله تعالى عنه: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياهفلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. ومجيء الاستغفار في صيغة الفعل المضارع، يؤذن بتكرار الاستغفار ولزومه ([2]).
وقيل في استغفار إبراهيم -عليه السلام- أنه دعاء لأبيه بالهداية، بدلالة قوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين}، لأن الضلال يقرن بالهداية.
{إنه كان بي حفيّا} تعليل مستأنف، وفيه رجاء قوي لاستجابة دعوته، وقبوله استغفاره لأبيه، وجاء في لسان العرب مادة (حفي): "الحَفِيُّ: هو اللطيف بك، يَبَرُّكَ ويُلْطِفك ويَحْتَفِي بك".

ومضة:
في قوله: {إنه كان بي حفيّاً} يتجلى إيمان إبراهيم -عليه السلام- وحقيقة توكله على الله عزوجل، وهذا في نحو قوله تعالى: {كلا إنّ معي ربي سيهدين}.

فائدة:
دوماً ما يعرض المفسرون عند تفسير هذه الآية إلى مسألة ابتداء الكافر بالسلام، ويوردون شيئاً من اختلاف الفقهاء فيها، وقد لفتت نظري رسالة واردة من (الإسلام اليوم) في ذات الموضوع، فارتأيتُ عرضها ههنا.
قال الأوزاعي عن ابتداء الكافر بالسلام: "إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون"، مظهر ليس غريباً على سلفنا في سعة الصدر للخلاف، وفي تعاطيه بما يجعله وجهاً للرحمة، وسبباً للائتلاف! - الشريف حاتم العوني.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير