تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن هذا القبيل أيضاً: قول الله -سبحانه وتعالى-: {أَفَمَنْ مَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإِسْلاَم فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ للقَاسِيةِ قُلُوبُهُم}، والتقدير: أفمن شرَح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، كمَن ليس كذلك؟ أي: مِن الضالِّ الكافر الذي عاش في ضلال الكفر؛ فقد ترَكه ازدراءً واحتقاراً، وأنه ليس جديراً بأن يُذكر. وفي هذا الحذف -مع أنّ فيه تحقيراً وازدراءً لشأن المسنَد المحذوف- إشعار بتعظيم المسند إليه المذكور الذي: {مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بَِمَا كَسَبَتْ}، وأيضاً مَن {شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإِسْلاَم فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}.

فإذا كان حذْف المسنَد فيه تحقير له، وإهانة له، وحطّه عن درجَة الذِّكْر، فإنّ في هذا الحذف إشعاراً بتعظيم المسند المذكور في الكلام، وإشارة إلى أنّه أعظم وأجلّ من أن يقارَن بالمحذوف، لأنّ المحذوف ساقط المنزلة لا يستحقّ ذِكراً ولا مقارنة بجانب هذا العظيم المذكور، هذا من أغراض حذف المسند في الكلام البليغ.

ونعود مرّة ثانية إلى صورة أخرى من صور الحذْف، فقد يكون من أغراض حذْف المسند: الاهتمام بالمقدّم، وتأكيد التسوية في معنى المسنَد. انظر إلى قوله تعالى في شأن الذين يُؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، إذ التقدير: والله أحق أن يُرضوه، ورسوله كذلك. فحَذف المسند الثاني -وهو "كذلك" -لدلالة الأوّل عليه، وهو: "والله أحقّ أن يُرضوه". أو بعبارة أخرى: حُذف المسند -خبر رسول- للاحتراز عن العبث في الكلام، وقَرن بين لفظ الجلالة ولفظ: {رَسُولُهُ} - {واللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} - للإشارة إلى: أنّ رضَى الرسول -عليه الصلاة والسلام- يجب أن يُحرص عليه كما يُحرص على رضى الله -سبحانه وتعالى-، لأنّ من يُطع الرسول فقد أطاع الله. ولو أُخِّر لفظُ "الرّسول" ربّما يتوهّم متوهِّم أنّ رضى الرسول -عليه الصلاة والسلام- في منزلة أقلّ من رضَى الله -سبحانه وتعالى-.

إذاً، والله أحقّ أن يُرضوه ورسوله، الاهتمام بالمقدّم -وهو الله سبحانه وتعالى-، ورضَى الله -سبحانه وتعالى-، ثم حذْف المسنَد يؤكِّد التسوية، لأنّ {وَرَسُولُهُ} كذلك أحقّ أن يُرضوه، وقَرن أولاً بين الله ورسوله قبل أن يأتي خبر لفظ الجلالة، لكي يُبيِّن أنّ رضى رسول الله من رضَى الله -سبحانه وتعالى-.

هذا باعتبار أنّ معنى جملتيْن، والله أحقّ أن يُرضوه، ورسولُه كذلك، تكون جملتيْن. وأمّا على اعتبار أنّ الجملة واحدة، وأن لفظ "الرسول" معطوف على لفظ الجلالة عطف مفرَدات، يعني: و {اللهُ}: مبتدأ، و {رَسُولُهُ}: معطوف على {اللهُ}، و {أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}: خبر عن هذا المبتدإ وما عُطف عليه، فلا شاهد لنا في الآية، لأنّه لا يكون هناك حذف للمسنَد، ولا يمنع من هذا الوجه أن يكون {رَسُولُهُ} معطوفاً على لفظ الجلالة، والخبر عن لفظ الجلالة وما عُطف عليه لا يمنع من هذا إفراد الضمير في قوله: {أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، لأنّه للدلالة على أنّ رضَى الله ورضَى الرسول شيء واحد بدون فَرْق، فيلتقي في هذا مع الوجه الأوّل.

-يعني الوجه "الله أحقّ أن يُرضوه"، و {أَحَقُّ}: خبر لفظ الجلالة، {واللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، {أَحَقُّ}: خبر الأوّل، وحَذف خبر {رَسُولُهُ} لدلالة الأوّل عليه؛ فيكون من عطف الجُمل. وقَرن بين {الله} و {رَسُوله} أولاً لكي يبيِّن أنّ رضّى الرسول من رضى الله -سبحانه وتعالى-، وأنه لا فرق بين الرضاءيْن. وأمّا لو جعلنا {وَرَسُولُهُ}: معطوفاً على لفظ الجلالة، و {أَحَقُّ}: خبراً عنهما، فهذا فيه أيضاً إشارة في إفراد الضمير في: {يُرْضُوهُ} إلى أنّ رضَى الرسول هو من رضَى الله -سبحانه وتعالى-، وأنه لا فَرْق بين الاثنيْن.

وقد يُحذف المسنَد من الكلام البليغ، لأنّ القصد هو إلى المسنَد إليه، لِينصرف الذِّهن إليه، لأنّه مختصّ بحال غريبة ينبغي أن تَشيع بين الناس، ليَقفوا عليها، ويأخذوا منها درساً أو عِظة؛ وذلك كما في قوله -سبحانه وتعالى- في سورة (الزمر): {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِِ سُوءَ الْعَذَاب يَوَمَ الْقِيامِةِ} أي: كمن يُنَعّم في الجنة، وقوله -سبحانه وتعالى- في سورة (فاطر): {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً} أي: كمَن لم يُزيًّن له سوء عملِه. هنا حَذف في الآية الأولى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِِ سُوءَ الْعَذَاب يَوَمَ الْقِيامِةِ}، حذف من يُنعّم في الجنة لأنّ من يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة، هذا المسنَد إليه يختصّ بحالة غريبة لا توجد عند الإنسان الطبيعي والعادي؛ وذلك أنّ هذا الإنسان يتّقي بوجهه سوء العذاب، الإنسان يتّقي العذاب، أو يتقي الضربات، أو يتّقي ما يوجّه إليه من إيذاء، يتّقيه بيديْه، يتّقيه بصدره، إنّما هذا الإنسان يتّقي العذاب بوجهه الذي هو أكرم شيء في الإنسان؛ وهذا يدلّ على أنّه قد أصابه لون من الذهول والخبال، فلم يَعُدْ يدري كيف يتّقي هذا العذاب الذي يوجّه إليه، فيحاول أن يَدرأ عن نفسه العذاب بوجْهه، وليس بالأدوات الطبيعية لدَرء العذاب. فلمّا كان المسنَد إليه متّصفاً بحالة غريبة، ينبغي أن تشيع بين الناس ليتصوّروها، ويأخذوا منها الدرس والعبرة، اكتفى بالمسنَد، وحذف المسند إليه.

وكذلك {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً}، حَذف: كمَن لم يُزيّن له سوء عمله، لأنّ هذه حالة غريبة. الإنسان الذي يعمل الأعمال السيئة ولكنّه قد طَمست على بصيرته فرآها حَسنة، فهذا إنسان غريب. والحذف هنا كما هو للدِّلالة أو للقصد إلى هذه الحالة الغريبة، يُشعر بتعظيم المحذوف، وأنّ الله -سبحانه وتعالى- يُكرمه فلا يَذكره في مقابل الشقيّ المذكور؛ فليس في ذِكره هنا تكريم له، بل حَذَفه حتى لا يكون في مواجهة هذا الشقي والضال. هذا الحذف فيه إكرام، لكي لا يكون في مقابَلة هذا الإنسان العجيب. والله أعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير