"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ... "، قال النووي: ((أَيْ: تُعاد وتُكرَّر شيئًا بعد شيء ... وذَلكَ أَنَّ نَاسج الحَصير عند العرَب كُلَّمَا صنع عودًا أخذ آخَر ونسجَه، فشبَّه عرض الفِتَن عَلى القلُوب وَاحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صَانِعهَا وَاحدًا بعد واحد))، ووجه الشبه صورة مركبة من ضمّ أشياء متفرِّقة إلى بعضها تدريجيًّا، وهذا التجسيد للمعنى بصورة متحرِّكة يقرِّب صورة الفتنة التي يغلب عليها الخفاء إلى الأفهام، ويجسِّدها أمام الأعين؛ حتى تتملاها وتدرك خطرها.
وهنا وقفة في تملِّي إبداع الصورة:
- يبرز البعد التخييلي في الصورة والعمق من اصطفاء ألفاظ موحية مصوِّرة تبثُّ المعنى في الأذهان نحو قوله: (أشربها) الذي يوحي بسرعة تأثر القلوب بالفتن، ودخول الفتن فِيهِا دُخُولاًَ تَامًّا، وتغلغلها في النفس، ومن ذلك قولهم: ((ثَوْب مُشْرَب بِحُمْرَةٍ: أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَة مُخَالَطَة لا اِنْفِكَاك لَهَا)) يمنح التكرير الصورة تدريجًا في تشرُّب القلب للفتنة بطريقة إبليس الذي اكتسب خبرة طويلة في إفساد القلوب بالفتن والشبهات والشهوات.
- تبرز خطورة الانغماس في الفتن بالألفاظ (نكتت فيه نكتة)، ((قال: ابن دُريد وغيره: كُلّ نُقطَة فِي شَيْء بخلافِ لونه فهو نَكْت)).
- تضفي الألوان على الصورة بعدًا حسيًّا بصريًّا، ويسهم التضاد (سوداء، بيضاء) في التمييز بين الحالتين وتجسيد البون الشاسع بينهما.
- استمداد الصورة من بيئة العرب يزيد من قوة تأثيرها؛ لتدركها أفهامهم بيسر وسهولة، فإذا العقل يتمثل طريقة عرض الفتن أمامه شاخصة من معرفته بالتأليف بين أعواد الحصير تدريجيًّا عودًا عودًا.
وبهذه الصورة يتحقق الغرض الأساس من التشبيه وهو بيان مقدار الصفة مع تحسين القلوب المؤمنة، وتقبيح القلوب الكافرة؛ لينساب إلى النفس معنى الحذر من الفتن.
ومن براعة البيان النبوي عرض المعنى الواحد في صور متعددة أو ما يسمى بتصريف القول أو الاقتدار، ففي التحذير من الفتن والحثّ على الأعمال الصالحة، صورة أخرى يجلِّيها قول رَسُولَ اللَّهِ "بَادِرُوا بِالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ..
.. شُبِّهت الفتن هنا بقطع الليل المظلم، تمثيل للمعنوي بصورة حسية بصرية تقرِّبه للأذهان.
وهنا وقفة مع بلاغة الصورة في تأدية المعنى:
- انتقاء لفظ (بادروا) فالمبادرة المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته أو بدفعه قبل وقوعه، ليتحقق منها الغرض الأساس الذي قامت من أجله الصورة.
- إيثار التعبير بـ (قطع الليل المظلم) دون الليل المظلم فيه تجسيد لتكاثف الظلام في صورة حسية، فكأنما هو قطع كثيرة بعضها فوق بعض إذا خرج المرء من واحدة سقط في أخرى .. فتن متراكبة متراكمة لا يجلوها قليل من العمل الصالح مثلما تتكاثف قطع الليل المظلم فلا يبددها بصيص نور بل تحتاج إلى ضوء متوهج، وفي هذا إشارة إلى أن الأعمال الصالحة في فتن الحياة كالمصابيح المتألقة في قطع الظلام الحالك، فهي سلاح المسلم في كل ملمة.
- المقابلة في (يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، وفيها يتجلى الفرق بين الصورتين لتتميز أولاهما بنصاعتها في مقابل قتامة الأخرى وإظلامها، (((يصبح الرجل مؤمنًا) أي: موصوفا بأصل الإيمان أو بكماله، (ويمسي كافرًا) أي: حقيقة، أو كافرًا للنعمة أو مشابها للكفرة أو عاملاً عمل الكافر، وقيل المعنى يصبح محرِّمًا ما حرمه الله، ويمسي مستحلاًّ إياه وبالعكس!)).
¥