2 ـ كما أن مجيء حرف الجر " عن " اسما أوله النحاة بمعنى " جانب "، وكذلك مجيء حرف الجر " على " اسما فقد أوله النحاة بمعنى " فوق "، أو " عند "، وذلك كما يشاء لهم، وحسب ما تقتضيه القاعدة التي جلبوا لها ذلك الشاهد، وما عليك أخي القارئ إلا أن تتصور، وتتأمل ما أراده بعض النحاة.
والواقع نقول: إن ما تصنعه النحاة المتقدمون، وأجهدوا فيه العقل يعتبر عملا يحمدون عليه لما بذلوا فيه من الجهد الذي يستفيد منه من أراد دراسة النحو والتقعر فيه. ولكن من حيث التطبيق لم ينصفوا تلك القواعد، بل حاولوا جاهدين أن يجعلوا لها شواهد ولو من غير المألوف، أو ما لا يستوعبه العقل، ويتقبله المنطق السليم، لأنه بعيد عن الواقع العملي الملموس.
ثالثا ـ وما ذكرناه عن عرفي الجر " عن "، و " على " يقال في " مذ ومنذ ".
فقد لاحظنا أن " مذ ومنذ " هما في الأصل حرفان من أحرف الجر، ولا جدال في ذلك، لأن العقل يقره، والمنطق يؤيده. فعندما نقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة، أو منذ يومين. فذلك أقرب إلى الفهم والصواب. فيوم اسم مجرور بـ " مذ " باعتبارها حرف جر، وهذا هو الصحيح. أما إذا قلنا كما تصور النحاة المتقدمون، أو بعضهم أن مذ إذا جاء بعدها مرفوع فهي اسم سواء أكان المرفوع خبرا، أو مبتدأ، أو فاعلا لكان التامة المحذوفة باعتبار مذ ظرفا.
ولماذا كل هذا التخيل؟ ولماذا كل هذا البعد عن المحسوس؟ ولماذا نحن الذين نعين فيما إذا كان الاسم الواقع بعد مذ مرفوعا، أو مجرورا حتى نضع مسمى
" مذ "، هل هي حرف أو اسم؟ فإذا قلت إن الاسم الواقع بعد " مذ "، أو " منذ " مرفوعا كانت مذ اسما، وأعربت خبرا لكان، أو سما لها، أو فاعلا، وذلك حسب ما أحدده أنا، إذن لم يكن هناك قاعدة متفق عليها ليجري عليها التطبيق العملي، ولكن أنا الذي أحدد، وغيري كذلك يحدد حسب ما يتبادر إلى ذهنه، أو تصوره.
ولو كانت قواعد اللغة تصورات واحتمالات لأصبح لكل نحوي نحو مستقل، أو كان لكل متكلم بالعربية قواعد توافق ذوقه يضعها متى يشاء، وحسب مقتضى الكلام الذي يتكلمه، ويملى عليه حسب إدراكه وتصوره الخاص، وبهذا يكون النحو لا قواعد موضوعة تبنى عليها التطبيقات، ولكنه شواهد تنحت لها القواعد كلما اقتضى المقام ذلك.
رابعا ـ وأخيرا يمكننا الاستدلال على حرفية كل من: " عن "، و " على "، و " الكاف "، و " مذ ومنذ " كغيرها من حروف الجر، بأن تلك الأحرف وإن قبلت ـ في الشواهد المذكورة أنفا والمخصصة لها ـ دخول بعض أحرف الجر عليها إلا أنها لم تقبل علامات الاسم: كالتنوين، والتعريف بأل، والإضافة، وهذا خير دليل على حرفيتها. كما أنها لا تقبل علامات الإعراب: كالرفع والنصب والجر.
فإن قالوا إن هذه الأسماء لا تأتي إلا مجرورة لقبولها أحرف الجر، فهذا لا يكفي للدلالة على اسميتها، لأن عدم قبولها كثيرا من علامات الاسم أولى بإخراجها من باب الأسماء بدلا من قبولها حالة واحدة من حالات الاسم وهو دخول حرف الجر عليها.
كما أن دخول حرف الجر عليها مثلما بين لنا النحاة في الأمثلة السابقة كان بتأويل تلك الأحرف بمعاني أخرى لتدخل دائرة الأسماء، كتأويلهم " الكاف " بمعنى " مثل "، و " عن " بمعنى " جانب "، و " على " بمعنى " فوق " أو عند.
والذي هو أبعد عن الصواب أنهم لم يجعلوا لمذ أو منذ تعليلا لإدخالها في باب الأسماء، سوى أنهم جعلوا التعليل مبنيا على التصور العقلي للقارئ أو السامع عندما يقرأ قولهم علة سبيل المثال: ما رأيتك مذ يومان، أو ما رأيته منذ يوم الجمعة. فإذا تصور القارئ أن كلمة " يومان "، أو " يوم " في المثالين السابقين مرفوعة، كانت " مذ " أو " منذ " اسما، فلماذا لا نتصور، أو نقرأ كلمة " يومان "، أو " يوم " على حقيقتها الصحيحة بالجر، وتكون مذ ومنذ حرفين، وهذا أقرب إلى الصواب، والمنطق الصحيح، إذا كانت العملية عملية تذوق ومنطق. أما إذا كان الأمر هو بناء قواعد من غير الذي يألفه الذوق السليم لتوضع لها تلك الشواهد، فهذا أمر لا مجال لبحثنا فيه.
للاستزادة من المجرورات انقر هنا
ـ[زيد الخيل]ــــــــ[16 - 11 - 2005, 04:31 ص]ـ
النحو فرع المعنى
فارس العربية الخـ زيد ــــــــــيل