الأول: ما ذكره أبو حيان () من أن الخفض على الجوار لم يرد إلا في النعت لعدم اللبس، مما يعني أن منعه من العطف لأنه مظنة اللبس، وهذا ظاهر كما في الآية السابقة.
الثاني: ما ذكره ابن هشام () من أن الخفض على الجوار لا يحسن في المعطوف لأن حرف العطف حاجز بن الاسمين ومبطل للمجاورة.
وعليه فقد عمدوا إلى تخريج القراءات الموهمة بالخفض على الجوار بتخاريج عدة، منها ما ذكره السمين الحلبي في قوله تعالى:) وَحُوْرٍ عِيْنٍ ([الواقعة:22] فقال: " فأما الجر فمن أوجه:
أحدها: أنه عطف على "جنات النعيم " كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحم وحور، قاله الزمخشري. قال الشيخ [أبو حيان]: وهذا فيه بُعْد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض وهو فَهْمٌ أعجمي، قلت: والذي ذهب إليه معنى حسن جداً، وهو على حذف المضاف: أي وفي مقاربة حور، وهذا هو الذي عناه الزمخشري وقد صرح غيره بتقدير هذا المضاف.
والثاني: أنه معطوف على "أكواب" وذلك بتجوّز في قوله:" يطوف"، إذ معناه: ينعمون فيها بكوب وبكذا أو بحور قاله الزمخشري.
الثالث: أنه معطوف عليه حقيقة، وأن الولدان يطوفون عليهم أيضاً، فإن فيه لذة لهم، طافوا عليهم بالمأكول والمشروب والمتفكه والمنكوح ... " ().
الرأي الثالث:
ويمثله ابن جني () والسيرافي () وابن الحاجب () ومن المعاصرين سعيد الأفغاني ()، وهم المانعون للجر على الجوار مطلقاً، ويرونه شاذاً في كلام من لا يؤبه به من العرب قال ابن الحاجب في قوله تعالى:) وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ([المائدة:6]:" إنه مخفوض على الجوار، وليس بجيد، إذ لم يأت الخفض على الجوار في القرآن ولا في الكلام الفصيح، وإنما هو شاذ في كلام من لا يؤبه له من العرب " ().
وقد عمدوا إلى أدلة القائلين بالخفض على الجوار وردوها بتأويلات عدة، خاصة ما كان منها في باب النعت الذي أجمع عليه أصحاب المذهبين السابقين.
فأما ابن جني فقد قال في الشاهد العلم للنحاة على هذه المسألة (هذا جُحر ضبٍّ خربٍ) ما نصه:" أصله:" هذا جحر ضبٍّ خربٍ جُحْرُهُ "، فيجري (خرب) وصفاً على (ضب) وإن كان في الحقيقة للجحر، كما تقول: مررت برجلٍ قائمٍ أبوه. فتُجري (قائماً) وصفاً على رجل، وإن كان القيام للأب لا للرجل لما ضمن من ذكره ... فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء، وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت؛ لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً، فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس (خرب) فجرى وصفاً على (ضب)، وإن كان الخراب للجحر لا للضب على تقدير حذف المضاف على ما رأينا " () وبمثل ذلك قال في قول امرئ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله كبيرُ أناس في بجادٍ مزملِ
فقال: لأنه أراد مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول ().
وتبع ابن جني في منع الجر على الجوار أبو سعيد السيرافي، إلا أنه خالفه فالتقدير في قول العرب: (هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ):" هذا جحرُ ضبِّ خربٍ الجُحرُ مِنْهُ " قال:" كما نقول: حسن الوجه منه، وحذف الضمير للعلم به، وحُوِّلَ الإسناد إلى ضمير النصب، وخفض الجحر كما تقول: مررت برجلِ حسن الوجه " بالإضافة، والأصل حسن الوجه منه، ثم أتى بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر " ().
وقد تعقب النحاة () هذين الرأيين لابن جني والسيرافي ومن ذلك ما ذكره ابن هشام بعد عرضه لرأيهما:" ويلزمهما استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هي له، وذلك لا يجوز عند البصريين وإن أَمِن اللبس، وقول السيرافي إن هذا مثل:" مررت برجلٍ قائمٍ أبواه لا قاعدين " مردود لأن ذلك إنما يجوز في الوصف الثاني دون الأوَّل " ().
وأما من المعاصرين من النحاة فقد رد الجر على الجوار كل من عباس حسن () وسعيد الأفغاني، فأما عباس حسن فكان أشد النحاة رفضاً له أو للأخذ به معللاً ذلك بأن الداعي لاتخاذه وردوده في أمثلة قليلة جداً وبعضها مشكوك فيه، ووضح ذلك سعيد الأفغاني حين رد الاحتجاج بقول العرب:" هذا جحر ضبٍّ خربٍ" فقال:" جملة أولع بها قدماء النحاة مِن بعدهم، ولا حجة فيها من وجهين: الأول: أن قائلها –إن وجد- مجهول، والثاني: أن الوقوف على الكلمة الأخيرة بالسكون إذ العربي لا يقف على متحرك، فمن أين علموا أن قائلها جر كلمة خرب؟ هذا والجر على الجوار ضعيف جداًّ، لم يرد بطريق موثوق إلا في الضرورة الشعرية بندرة والضرورة لا يحتج بها " ().
وقد تعقب سعيد الأفغاني في هذا الرد الدكتور بدر البدر ورد عليه بثلاث أمور: " أولها: أن جهالة القائل لا تضر فكم من بيت أو قول من أقوال العرب مجهول القائل، ومع ذلك فقد قبله النحويون. الثاني: أن الرواية جاءت فيه صراحة بتحريك (خرب) حين قال العلماء: الوجه فيه الرفع وهو كلام أكثر العرب، ولكن بعضهم يجره. الثالث: قوله: إنه لم يرد عن العرب بطريق موثوق إلا في الضرورات الشعرية غير صحيح بل ثبت عن العرب أشعار عن سيبويه والفراء من غير ضرورة، حتى توفر لهم من ذلك شيء كثير فوجب قبوله " ().
الترجيح:
يبدو لي من ذلك كله أن الحمل على المجاور جائز في بابي النعت والعطف خاصة وذلك للأسباب التالية:
1/ كثرة المسموع عن العرب في ذلك، وهي كثرة تسوغ القياس عليه وهذا هو رأي سيبويه والجمهور، خلافاً لمن قصره على المسموع ().
2/ أنه القول بمنعه يوجب التقدير الذي لا داعي له، فضلا عن أنها تقديرات يرد عليها الكثير من المآخذ كما مر معنا في عرض المسألة.
¥