ومن أرادَ موسوعة ً نحْويةٍ جامعة ً، فلا أرفعَ قدراً من كتابِ العلاّمةِ: عبّاس ِ بن ِ حسن ٍ، ألا وهو: النحوُ الوافي، فهو خزينة ٌ جامعة ٌ لمسائل ِ ومباحثِ علم ِ النحْو ِ، ولا يسدُّ مسدّهُ إلا الكتابُ العظيمُ: شرحُ الكافيةِ للشريفِ الرّضيِّ، وهذا الكتابُ – بحسبِ وصفِ العلاّمةِ الرافعيِّ -: كاتبٌ ضخمٌ ليسَ في كتبِ العربيّةِ ما يساويهِ بحثاً وفلسفة ً.
ولا نُغفلُ كذلكَ قرءانَ النحْو ِ: كتابَ سيويهَ – كما لقّبهُ بذلكَ بعضُ العلماءِ -، وهو الحُجّة ُ في علمهم، وأكثرهُ مأخوذ ٌ من كلام ِ الخليل ِ، ويكفي القارئ دلالة ً على يُسر ِ هذا العلم ِ وسُهولتهِ، أنَّ مؤلّفَ الكتابِ – وهو سيبويهَ – رجلٌ أعجميٌّ، ولكنّهُ بالتجلّدِ والصبر ِ وملازمةِ العلماءِ، تفوّقَ على أهل ِ عصرهِ، وصارَ مرجعَ النحاةِ، وكتابهُ الحكمُ والفيصلُ بينهم.
هذا هو معينُ النحْو ِ العذبُ الثرُّ، لا زالَ كما بدأ يكتنفهُ النورُ من جوانبهِ، وتجلّلهُ الهيبة ُ، وينهلُ منهُ الدارسونَ والباحثونَ.
فلماذا القطيعة ُ بيننا وبينَ النحْو ِ؟، ومن المُتسبّبُ في ذلكَ؟.
لا إخالُ السببَ إلا حاجزاً نفسياً، ترسّبَ في الأعماق ِ، مع كثرةِ من يرمي النحْوَ بالصعوبةِ، ويحولُ دونَ النّاس ِ وطلبهم لهُ، فصدّقوا الظنونَ، ورضوا من حياتِهم بالكسل ِ والقعودِ، ومن الغنيمةِ بالإيابِ.
لا أظنُّ الأفهامَ تبلّدتْ، ولا القرائحَ كلّتْ، ولكنّهُ نفورٌ بعدَ إشاعةِ صعوبةِ هذا العلم ِ، ونشر ِ ثقافةِ الوهن ِ والخمول ِ والكسل ِ، حتّى صارَ طلبُ المعالي والعلوم ِ ضرباً من المخاطرةِ والتهوّر ِ، وحيلَ بينها وبينَ النّاس ِ بمجموعةٍ من المنفّراتِ والأكاذيبِ المُضلّلةِ، فصارَ سهلُها وعراً، ويسيرُها صعباً، فما فجئنا الزمانُ بشيءٍ مثلَ هذا الضعفِ العظيم ِ في العربيّةِ، وفشوِّ اللّحن ِ، وانتشار ِ العاميّةِ.
نحنُ نحتاجُ – أيّها المعلّمونَ – إلى طرق ٍ ترغيبيّةٍ لتدريس ِ هذا العلم ِ، وتأسيسهِ على أصول ٍ صحيحةٍ، فنُلقّنُ الطالبَ صِغارَ المسائل ِ، ونغذوهُ بها، حتّى يتمرّنَ عقلهُ على الفهم ِ، ويرتاضَ ذهنهُ على الإعرابِ، ثمَّ نفتحَ لهُ آفاقَ العلل ِ والحُجج ِ، ونوسّعَ مداركهُ بذكر ِ الخلافِ بينَ المدارس ِ النحْويةِ والنّحاةِ، أمّا أن يفتحَ الطالبُ عينهُ على الخلاف ِ، ويقعَ بصرهُ على الأحاجي والألغاز ِ في هذا العلم ِ، فهذا هو المنفّرُ من النحْو ِ، والداعي إلى تركهِ وتحاميهِ.
إنَّ هذا العلمَ سهلُ في متناول ِ الجميع ِ، ولا أدلَّ على ذلكَ من سرعةِ حذق ِ الأعجميِّ لهُ، وبراعتهِ فيهِ، حتّى إنّهُ ليتكلّمُ فيهِ بأفصحَ من أهلهِ، ويسردُ مفرداتهِ مُعربة ً غيرَ ملحونةٍ، بكلِّ يُسر ٍ وسهولةٍ، فهل كانوا أنطقَ منّا بلغةِ الضادِ؟، أم كانتْ لهم هممٌ أشرفُ وأعلى من همَمِنا؟.
نحنُ – يا سادة ُ – يُعوزنا دوماً البدءُ والخطوة ُ الأولى، فنمكثُ دهراً وعمراً نقدّمُ رجلاً ونؤخرُ أخرى، ونستسهلُ تارة ً ونستصعبُ أخرى، فيمضي العمرُ وتتوالى السنونُ، ونحنُ في الخطوةِ الأولى نعتركُ، بينما بلغَ غيرُنا من المكانةِ والمنزلةِ ما بلغَ، وأعظمُ ما يصدّنا عن العلم ِ وإتقانهِ هو تلكَ الهالة ُ من التخويفِ والإرهابِ، والتي ينسجها البطالونَ، ممّن كسدتْ بضاعتهم، وبارتْ تجارتهم، فأخذوا يُفسدونَ على النّاس ِ هممهم، ويصدّونهم عن سبيل ِ العلم ِ، تارة ً باسم ِ التنصّل ِ من رواسبِ التخلّفِ والتراثِ الصدءِ، وتارة ً باسم ِ التنوير ِ والتقدّم ِ، وهم في كلِّ ذلكَ يحملونَ في جنباتِهم حقداً ودغلاً، ويُعالجونَ في أنفسهم مرضاً وخوراً، فأينَ هم من مصافِّ أولئكَ؟، فلا أدركوا أهلَ عصرهم، ولا بزّوا من سبقهم، بل ما زالوا في ريبهم يتردّدونَ!.
هي الخطوة ُ الأولى، فابدأوا بها مستعينينَ باللهِ تعالى، ومهّدوا لأنفسكم الطريقَ، ويوشكَ أن تمرَّ الأيّامُ والليالي، فتصنعَ مع كرّها من أحدكم عالماً نبيهاً حصيفاً، والعاقلُ من ألغى عجلة َ الزمان ِ في سعيهِ للمجدِ، وراقبَ نفسهُ وعقلهُ، فما تمضي عليهِ غفلة ُ الدهر ِ إلا وهو مستيقظ ٌ على مجدٍ حاضر ٍ، وعزٍّ مُنيفٍ.
دمتم بخير ٍ.
منقول للكاتب الكبير فتى الأدغال