لم يمض على الإمام النووي كبير وقت في الطلب حتى أحس في نفسه أهلية التأليف فشرع في الإسهام بالمؤلفات النافعة ابتداءا من عام ستين وستمائة تلبية لما قرره أهل العلم حيث ندبوا لطالب أن يشتغل بالتصنيف إذا تأهل له، فقد قال الحافظ ابن الصلاح في النوع الثامن والعشرين نقلا عن الخطيب ما نصه:
" وليشتغل بالتخريج والتأليف والتصنيف إذا استعد لذل وتأهل له، فإنه يثبت الحفظ ويزكي القلب ويشخذ الطبع، ويحيد البيان، ويكشف الملتبس، ويكسب جميل الذكر، ويخلده إلى آخر الدهر، وما يمهر في علم الحديث ويقف على غوامضه ويستبين الخفي من فوائده غلا من فعل ذلك ".
وهذا ما فعله صاحبنا ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه كما قال الجمال الإسنوي ـ رحمه اله تعالى:
لما تأهل للنظر والتحصيل رأى في المسارعة إلى الخير أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفا ينتفع به الناظر فيه، فجلع تصنيفه تحصيلا، وتحصيله تصينفا قال: وهو غرض صحيح، وقصد جميل قال ولوى ذلك لم يتيسر له من التصنيف ما تيسر له "
والإسنوي يشير بهذا إلى كثرة مؤلفاته، التي عجت به (المكتبات، وحققت رغة أولي الرغبات، ولا ريب فقد أربت مؤلفاته على الخمسين مؤلفا، هذا ما ذكر منها ولعل ما لم يذكر منها أكثر، وقد قيل: إن تصنيفه بلغ كل يوم كراستين أو أكثر.
قد حكى عنه تلميذه ابن العطار أنه أمره ببيع نحو ألف كراسة كان قد كتبها بخطه بعد أن يقف على غسلها في الوراقة وخوفه إن خالف أمره، قال: فما أمكنني إلا طاعته وغلى الآن في قلبي حسرات.
مؤلفاته في الحديث:
شرح مسلم (بالمنهاج شرح صيحي مسلم بن الحجاج)
ـ رياض الصالحين ـ الأربعين النووية:
ـ خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام
ـ شرح البخاري ـ كتب منه جزءا يسيرا ولم يستكمله.
ـ الأذكار المسمى بـ " حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار"
وفي علوم الحديث الإرشاد، والتقريب والإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات.
في الفقه: روضة الطالبين ـ المجموع شرح المهذب ولم يستكمله، وقد أكمله السبكي والمطيعي، والمنهاج والإيضاح والتحقيق.
التربية والسلوك: التبيان في أداب حملة القرآن وبستان العارفين.
التراجم والسير: تهذيب الأسماء واللغات ـ وطبقات الفقهاء.
اللغة: القسم الثاني من تهذيب الأسماء واللغات وتحرير التنبيه.
وقد حازت كتبه كلها القبول والرضا لدى الكافة والجميع من أهل العلم ينهل من معينها، ولا ترى أحدا يأنف من الرجوع إليها، بل أن من رجع إليها فقد عضد رأيه وقوى حجته، وما من إنسان يقف على مؤلفاته إلا لهج بمدحه والثناء والترحم عليه، جزاء خدمته للعلم وأهله بتلك المصنفات المتقنة، فرحمه الله رحمة واسعة.
وفاته رحمه الله وما قيل في رثائه
وكما كان حظ إمامنا النووي من الدنيا قليلا، فلم ينل منها ولم تنل منه، وكانت كلها للعم والعبادة والتصنيف والزهادة، كذلك كان بقاؤه في الدنيا قليلا،فلم يعمر فيها طويلا ولم يبن الدور و سكن القصور، وإنما عاش على الكفاف والعفاف وسط الكتب وفي مدارس العلم الشرعي يفيد ويستفيد إلى أن أدركته منيته ولم يتتحقق أمنيته ولم يشبع نهمته من العلم النافع والعمل الصالح،وكان أماله في التصنيف والإفادة أطول من سنى عمره، فلم يستكمل كثيرا من الكتب التي شرع فيها وخاصة المجموع شرح المهذب، ومن أكمله لم يبلغ علمه وإتقانه وإحسانه، فرحم الله الجميع، ولا غرو في ذلك، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يرفع درجة إمامنا النووي فوق كثير من خلقه،وأن ينفعه بما ترك من علم نافع وسلامة سريرة، وحسن سيرة.
قال ابن العطار: فبلغني مرضه، فتوجهت من دمشق لعبادته، فسر بذلك، ثم أمرني بالرجوع إلى أهلي، فودعته بعد ما أن أشرف على العافية في يوم السبت العشرين من رجب فلما كانت ليلة الثلاثة في الرابع والعشرين منه سنة ست وسبعين وتسمائة للهجرة انتقل إلى جوار ربه ـ رحمه الله تعالى ـ
قال ابن العطار: وكان قبل قوله أذن لي في السفر بأيام يسيرة، أرمل إليه فقير إبريقا فقبله وقال: قد أرسل إلى فقير آخلا زنبيلا، قال: وهذا إبريق وذلك ألة السفر.
وقال التاج الدين السبكي في الطبقات الوسطى ونقله السخاوي:
إنه قبل ظهوره إلى نوى رد الكتب المستعارة من الأوقاف جميعها.
وحكى اللخمي عن غير واحد من العلماء بدمشق أنه لما خرج منها إلى نوى خرج معه جماعة العلماء وغيرهم لظاهر دمشق، وسألوه متى الاجتماع؟ فقال: بعد مائتي سنة فعلموا أنه عني القيامة.
وقال القطب اليونيني: ولما وصل الخبر بوفاته لدمشق توجه قاضي القضاة عز تالدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة على قبره.
يقول الذهبي: ورثاه غير واحد يبلغون عشرون نفسا بأكثر من ستمائة بيت
هذا بعض مما اقتطفنا من أقوال العلماء في ترجمته
¥