فهم أعمق القلوب علما، فلا تكلف في الأعمال والأقوال، ولا طلب لغوامض المسائل ونوادر الوقائع، ولا خروج عن حد الاعتدال في دين أو دنيا، ولا انحراف ولا شطح ولا صعق ولا حال مخالف للشرع، فهم، عند التحقيق، أكمل الناس علما وعملا بعد الأنبياء والمرسلين.
عن هذه الثنائية يقول أبو العباس رحمه الله:
"الخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين: في العلم النافع، والعمل الصالح. وقد بعث الله محمدا بأفضل ذلك، وهو الهدى ودين الحق، كما قال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)، فالهدى: كمال العلم، ودين الحق: كمال العمل".
بتصرف يسير من "مجموع الفتاوى"، (19/ 169، 170).
ويزيد الأمر بسطا فيقول في رسائل موجزة:
"فالعمل الصالح هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو: الدين دين الاسلام والعلم والهدى هو تصديق الرسول فيما أخبر به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك".
"فالعلم النافع هو الإيمان، والعمل الصالح هو الإسلام"، على القول بأنهما إذا اجتمعا افترقا: فاختص الإيمان بالعلم واختص الإسلام بالعمل، خلاف ما لو افترقا فإنهما يجتمعان، فيدخل كل واحد منهما في حد الآخر.
"العلم النافع من علم الله، والعمل الصالح هو العمل بأمر الله".
"هذا تصديق الرسول فيما أخبر، وهذا طاعته فيما أمر".
"وضد الأول أن يقول على الله ما لا يعلم، وضد الثاني أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا".
بتصرف يسير من "مجموع الفتاوى"، (19/ 170، 171).
وجميع الأمم تفضل هذين الجنسين: "العلم والعمل"، فالله، عز وجل، يثني على أنبياءه فيقول: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)، فهم: أولوا أيد وقوة في العمل، وبصيرة في العلم.
وإلى هذا المعنى أشار ابن تيمية بقوله:
" فذكر النوعين"، أي: العلم والعمل، ثم شرع في ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية، فقال: (قال الوالبى عن ابن عباس يقول: أولوا القوة فى العبادة، وقال ابن أبي حاتم وروى عن سعيد بن جبير وعطاء الخراساني والحسن والضحاك والسدي وقتادة وأبي سنان ومبشر بن عبيد نحو ذلك، و الأبصار قال: الأبصار الفقه فى الدين، "وهو معنى علمي"، وقال مجاهد: الأبصار الصواب في الحكم، وعن سعيد بن جبير قال: البصيرة بدين الله وكتابه وعن عطاء الخراساني أولى الأيدي والأبصار قال: أولوا القوة في العبادة والبصر والعلم بأمر الله، وروى عن قتادة قال: أعطوا قوة فى العبادة وبصرا فى الدين".
بتصرف يسير من "مجموع الفتاوى"، (19/ 170).
وكلها معان متقاربة يحمل الاختلاف فيها على اختلاف التنوع الذي يؤول في حقيقته إلى معنى واحد عبر عنه بألفاظ مختلفة.
بل إن الأمم التي لم تؤت كتابا، تفضل هذين الجنسين فـ:
"جميع حكماء الأمم يفضلون هذين النوعين مثل حكماء اليونان والهند والعرب، قال ابن قتيبة رحمه الله: الحكمة عند العرب العلم والعمل"
بتصرف يسير من "مجموع الفتاوى"، (19/ 170).
وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم خير من جمع بين هذه الثنائية، حتى في قراءته، فـ "كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فى ركعتي الفجر تارة سورة الاخلاص و قل يا أيها الكافرون ففي قل يا أيها الكافرون: عبادة الله وحده وهو دين الاسلام، "وهذا هو العمل"، وفي قل هو الله أحد: صفة الرحمن وأن يقال فيه ويخبر عنه بما يستحقه وهو الإيمان هذا هو التوحيد القولي وذلك هو التوحيد العملي".
فمرد التوحيد لهذين النوعين:
فـ: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء الصفات: أخبار علمية، ولذا يجمع بينهما بعض العلماء تحت عنوان: "التوحيد العلمي الخبري".
و: توحيد الألوهية: أوامر عملية لابد أن تسبقها إرادة جازمة وقدرة تامة على الفعل، ولذا اصطلح على تسميته بـ: "التوحيد العملي الطلبي"، أو "توحيد القصد والعبادة"، والعبادة تشمل كل أعمال القلب واللسان والجوارح.
¥