تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومعرفة العقل لمسائل الدين الكبار: معرفة إجمالية، فالعقل قد يدرك رؤوسها لا تفاصيلها، تماما كفطرة التوحيد التي فطر الله، عز وجل، عليها، عباده، فهي فطرة مجملة، لا استقلال لها بإدراك تفاصيل مسائل الاعتقاد، لأن ذلك مما اختص به الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، فهم يقومون ما اعوج من فطر وأفهام، ويفصلون ما أجمل من مسائل، ويردون ما يقدح من شبهات، ففي كلامهم: إخبار بالمبدأ والمعاد، والجنة والنار، والميزان والصراط ................... إلخ من المسائل التي لا تعلم إلا من قبلهم.

وإلى ذلك أشار ابن تيمية بقوله:

"واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مثل الإقرار بوجود الخالق وبوحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته وعظمته والإقرار بالثواب وبرسالة محمد وغير ذلك مما يعلم بالعقل قد دل الشارع على أدلته العقلية".

"مجموع الفتاوى"، (19/ 230).

فأثبت للعقل علما معتبرا، ولكنه قاصر، لأنه لا يستقل إلا بإدراك المسائل الإجمالية الكبار، كما تقدم.

ثم قال في موضع آخر مبينا وجه هذا القصور:

"ولا تحسبن أن العقول لو تركت و علومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته و أسمائه على وجه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل و استصغى بذلك و استأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية و إنما ينال به الظن و الحسبان".

"الصارم المسلول على شاتم الرسول"، (1/ 255)، طبعة "محمد عبد الله عمر الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري".

فلا غنى للعقل المستدل عن نقل دال، باعتراف الموافق من أهل السنة، والمخالف من رؤوس المتكلمين، ولعل أبرز من اعترف منهم بذلك:

فخر الدين الرازي، رحمه الله، إذ يقول في وصيته الشهيرة:

"لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} {إليه يصعد الكلم الطيب} وأقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء} {ولا يحيطون به علما} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". اهـ

فرد الأمر إلى النصوص، وأبان عوار مناهج المتكلمين والفلاسفة التي تبناها طيلة عمره، وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ، فالرازي، رحمه الله، رأس من رؤوس القوم، بل لعله أعظم رؤوس متأخريهم.

ويدانيه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، رحمه الله، في قوله، وإن كان متقدما عليه، إذ يقول:

"لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي"

نقلا عن "الحموية"، ص8، ولعل ابن تيمية، رحمه الله، كنى عن اسمه بـ "فلان" صيانة له، فالرجل من أعلام المسلمين المبرزين، والله أعلم.

فخاض أبو المعالي، رحمه الله، بحور الكلام والفلسفة، وتمنى في نهاية عمره، أن يموت على عقيدة أمه، أو "عقيدة عجائز نيسابور"، اللاتي يقرأن الكتاب المنزل ويؤمن به إيمانا مجملا، دون الخوض في تأويلات الفلاسفة والمتكلمين، فما أسعدهن بهذا التسليم والانقياد، وما أسلم فطرهن وأزكى نفوسهن!!!!.

والشهرستاني، رحمه الله، المتكلم البارع ينشد:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها ******* وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر ******* على ذقن أو قارعا سن نادم

ومحمد بن واصل الحموي، عالم المنطق، يقول:

"أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء".

وطرق القوم في التصنيف أشهر من أن تذكر، فهي تعتمد على إيراد الشبه العقلية، ومن ثم الرد عليها بردود عقلية مماثلة في سلسلة من الإيرادات لا تنتهي، فديدنهم في التصنيف: فإن قالوا كذا قلنا كذا، وإن قالوا كذا قلنا كذا ................ في سلسلة لا تنتهي

إلا بموت أحد المتناظرين!!!!، دون التطرق للنصوص الشرعية إلا فيما ندر على سبيل النافلة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير