ومن المعلوم ان المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونهما هم أبعد عن معرفة الحديث وأبعد عن اتباعه من هؤلاء هذا أمر محسوس بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله وأحواله وبواطن أموره وظواهرها حتى لتجد كثيرا من العامة أعلم بذلك منهم ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه وحديث مكذوب موضوع عليه.
وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم سواء كان موضوعا أو غير موضوع فيعدلون إلى أحاديث يعلم خاصة الرسول بالضرورة اليقينية أنها مكذوبة عليه عن أحاديث يعلم خاصته بالضرورة اليقينية أنها قوله وهم
لا يعلمون مراده بل غالب هؤلاء لا يعلمون معاني القرآن فضلا عن الحديث بل كثير منهم لا يحفظون القرآن أصلا فمن لا يحفظ القرآن ولا يعرف معانيه ولا يعرف الحديث ولا معانيه من أين يكون عارفا بالحقائق المأخوذة عن الرسول.
وإذا تدبر العاقل وجد الطوائف كلها كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد كانت عنهما أنأى حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره بل ربما ذكرت عنده آية فقال لا نسلم صحة الحديث وربما قال لقوله عليه السلام كذا وتكون آية من كتاب الله وقد بلغنا من ذلك عجائب وما لم يبلغنا أكثر.
وحدثني ثقة أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين رجل يسمى شمس الدين الأصبهاني شيخ الأيكي فأعطوه جزءا من الربعة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: المص، مصدر "مص"، حتى قيل له ألف لام ميم صاد!!!!!.
فتأمل هذه الحكومة العادلة ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن ابن أبي قتيلة أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة فقال قوم سوء فقام الإمام أحمد وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق زنديق زنديق ودخل بيته فإنه عرف مغزاه وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي".
"مجموع الفتاوى"، (4/ 95_97).
فليس المقصود: أهل الحديث ممن عني بجمعه فقط، وإن اعتنى بتحرير أسانيده ومتونه، وإنما المقصود من جمع بين روايته، وفقهه ودرايته، إذ ما فائدة الدليل بلا مدلول؟!!!.
وهذا ما تحقق لعلماء الملة الربانيين الذين جمعوا بين ثنائية:
صحة الدليل، وصحة الاستدلال.
فنظروا في أسانيد أدلتهم، وميزوا صحيحها من سقيمها، ثم حققوا مناطاتها، فاستدلوا على مسائل الدين بأدلة صحيحة تناسبها، فلكل مسألة دليلها، فجمعوا بين: صحة الدليل وصراحته.
ويصوغ أبو العباس، رحمه الله، هذه الثنائية بقوله:
"فالشأن في أن نقول علما: وهو النقل المصدق والبحث المحقق".
وقوله: "وأما الناظر في المسألة: فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، (فهذا هو: النقل المصدق)، وإلى أن يهتدي به وينتفع، (وهذا هو: البحث المحقق) ".
فإذا ثبتت صحة الدليل، جاء دور المجتهد في استنباط الحكم تبعا لضوابط الاستدلال التي تعتمد بالدرجة الأولى على الإلمام بلسان العرب، ومعرفة مقاصد التشريع، وجمع أدلة الباب الواحد ....... إلخ، وهنا قد تختلف وجهة نظر المجتهدين تبعا لتضلعهم من هذه الضوابط، فقد يستفيد مجتهد من دليل ما حكما بالوجوب لا يستفيده مجتهد آخر، بل إن المجتهدين قد يشتركان في إثبات أصل الحكم دون درجته، كأن يتفقا على كون الشيء مأمورا به ويختلفا في درجة هذا الأمر فيراه أحدهما مندوبا، ويراه الآخر واجبا، كما في:
مسألة وضع الراحتين على الركبتين في الركوع: فقد ذهب الجمهور إلى حمل الأمر بذلك على الندب، وخالف ابن حزم، رحمه الله، فقال بالوجوب أخذا بظاهر الأمر، فالأصل فيه الوجوب.
ومسألة الاستعاذة من: عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال، بعد التشهد الأخير، فالجمهور على الندب، خلافا لابن حزم، رحمه الله، الذي أخذ، أيضا، بظاهر الأمر، فأوجب الاستعاذة منها في هذا الموضع.
¥