ومسألة القراءة في الركوع والسجود، فالجمهور على عدم حمل النهي عن قراءة القرآن في هذين الموضعين، على الفساد، لأنه نهي مقيد بموضعي الركوع والسجود، فهو نهي باعتبار موضعه، لا يقتضي الفساد، خلافا للظاهرية الذين حملوا النهي على الفساد، فنظروا لكونه نهيا مجردا بغض النظر عن كونه خارجا أم لا، فاتفق الفريقان على التحريم واختلفا في أثر هذا التحريم.
وإنما يظهر هذا الاختلاف، أكثر ما يظهر، بين: الجمهور من جهة، والظاهرية، رحمهم الله، من جهة أخرى، لأنهم اعتمدوا الأخذ بظواهر الكتاب والسنة مطلقا، فحملوا الأمر على الوجوب مطلقا، وحملوا النهي على التحريم المقتضي لفساد المنهي عنه مطلقا، وهذا مما يحمد للظاهرية، رحمهم الله، ولإمامهم الإمام الحبيب: أبي محمد بن حزم، رحمه الله، درة التاج الأندلسي المفقود، بغض النظر عن صحة ما ذهب إليه في واقع الأمر، فإن في كتبه، كما يقول ابن تيمية، رحمه الله، من: "التعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره"، وإن جانبه الصواب في مسائل زل فيها في باب الاعتقاد، فليته كان ظاهري الأصول كما كان ظاهري الفروع، والله يغفر له ويرحمه ويجزيه خيرا عن نصرته وتعظيمه للسنة وإن خالفها من خالفها من الأئمة الأعلام.
وقد بسط ابن تيمية، رحمه الله، القول في مسألة أسباب الاختلاف بين العلماء، في رسالته القيمة: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، وما يعنينا في هذا الموضع منها سببان:
ألا يصل الدليل إلى المجتهد، أو يصل إليه من طريق ضعيف لا يثبت، فينتفي الشق الأول: صحة الدليل، إذ لا دليل هنا أصلا، أو: الدليل غير صحيح، في نظر المجتهد، وإن كان صحيحا في نفس الأمر، فهو لم يتعمد مخالفته، إذ لو صح عنده لأخذ به، بينما المجتهد الذي أخذ به، وصله من طريق ثابت سالم من المعارضة، فاختلف القولان.
أو يصل إليه من طريق ثابت سالم من المعارضة، ولكنه لا يرى فيه وجها يصلح للاستدلال على المسألة، فينتفي الشق الثاني: صحة الاستدلال، إذ تحقيق المناط في مسألة بعينها مما تختلف فيه أنظار المجتهدين، وإن كان دليلهم واحدا كما تقدم.
ولا شك أن هذا من سعة شريعتنا الغراء التي ألمت بأنواع النوازل كلها، وإن لم تلم بآحادها نازلة نازلة، فأثبتت بما لا يدع مجالا للشك، إلا عند علماني مغرض، أو زنديق مرجف، أنها صالحة لقيادة البشرية في كل زمان ومكان.
ويبسط ابن تيمية، رحمه الله، أصلي: النقل المصدق والبحث المحقق، بقوله:
"والواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة. فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموما ولمن يدعي السنة خصوصا.
وإلا فمجرد قول القائل: "رواه فلان" لا يحتج به لا أهل السنة ولا الشيعة، وليس في المسلمين من يحتج بكل حديث رواه كل مصنف، فكل حديث يحتج به نطالبه من أول مقام بصحته".
وهذه بلا شك، أرضية منهجية صلبة، تصلح كنقطة التقاء بين الفرق الإسلامية، إذا تجرد أتباعها من الهوى.
وعن صحة الدلالة يقول ابن تيمية:
ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يقله فإنه يحتاج أن يفهم مراده، ويفقه ما قاله، ويجمع بين الأحاديث، ويضم كل شكل إلى شكله، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله، فهذا هو: العلم الذي ينتفع به المسلمون، ويجب تلقيه وقبوله، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
"فالناظر في الدليل بمنزلة المترائي للهلال، قد يراه، وقد لا يراه لعشى في بصره، كذلك أعمى القلب".
وما أكثرهم في هذا الزمن الذي زخرف فيه الباطل وشوه الحق، فحجبت القلوب بمعاصيها عن الحق واستشرفت للباطل.
ولله در القائل:
أيها المغتدي ليطلب علما ******* كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلا ******* كيف أغفلت علم أصل الأصول
ولله در الإمام المطلبي: محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، إذ يقول:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة ******* إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ******* وما سوى ذاك وسواس الشياطين
¥