تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبقيت مسألة تعرض لها ابن تيمية في ثنايا الفقرة الأخيرة، وهي لا تتعلق بهذه الثنائية تعلقا مباشرا ولكنها تصب في قناة نصرة منهج سلف الأمة، أعلم الناس بالخبر، وأطوعهم للأمر، ألا وهي قوله:

"ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم"

ففي العلم: هم المقدمون، لأن لهم من الإلمام بلسان العرب، وفهم مقاصد الشريعة ما ليس لغيرهم، لا سيما

الجيل الأول الذي عاين التنزيل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يؤيد ذلك ما ذهب إليه جمع من العلماء على رأسهم: أحمد وداود الظاهري، رحمهما الله، من قصر الإجماع المنضبط على ما كان عليه السلف الصالح إلى نهاية خلافة الفاروق، رضي الله عنه، إذ بعده تفرق الأصحاب، رضوان الله عليهم، في الأمصار، وكان من حسن سياسته أن استبقى جل الصحابة، لا سيما مقدميهم، كـ: علي، رضي الله عنه، الذي كان من كبار القضاة في عصر عمر، رضي الله عنه، وأقضيته في عصر عمر مما لا يتسع المقام لذكرها، استبقاهم عمر ليستعين برأيهم على قيادة الدولة المسلمة، فكانت الشورى في عهده منهجا مطردا، فلا يصدر في كتبه إلى عماله في الآفاق إلا عنها، وإلى هذا القول مال ابن تيمية، رحمه الله، إذ يقول:

"والإجماع الذي ينضبط هو: ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة".

وفي السلوك: كان للسلف اليد الطولى، فصوفيتهم أفضل من صوفية غيرهم، سواء أكانوا من زهاد الأمم الأخرى التي لم تؤت كتابا: كفارس والهند، التي فشا فيها الزهد الغالي المنحرف الذي خرج عن حد الاعتدال البشري، وتأثر به كثير من الزهاد والعباد، أم من زهاد ورهبان الأمم التي أوتيت الكتاب كالنصارى، أم من زهاد وعباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا سيما متأخريهم، الذين انحرفوا بالزهد عن مفهومه الإسلامي الوسطي، وخلطوا به، مفاهيم فلسفية عقدية، وردت علينا من ثقافات الأمم الأخرى، كما تقدم، فجمعوا بين البدعتين: العلمية في المعتقد، كما هو حال الحلولية والاتحادية، والعملية، التي يشترك فيها كل من غلا في أمر من أمور الدين، فلا يستوي أمثال الجنيد وسهل بن عبد الله التستري وذي النون المصري وأبي طالب المكي رحمهم الله من جهة، و: الحلاج والسهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين والتلمساني ومن على شاكلتهم من جهة أخرى.

وهذا التفريق ظاهر في كلام ابن تيمية، رحمه الله، وهو من أبرز معالم إنصافه في الحكم على الرجال، وعدم إصدار الأحكام الشمولية الجائرة، ولا يتسع المقام لبسط هذا الأمر.

وفي السياسة والحرب: كان للسلف، أيضا، القدح المعلى، فسياستهم شرعية نبوية، لا علمانية كافرة ولا شيوعية ملحدة، ملكوا الدنيا بـ: "لا إله إلا الله"، وامتدت دولتهم من حدود الصين شرقا إلى الأطلنطي غربا، وخطب ودهم ملوك الشرق والغرب، وأعطى أعداؤهم الجزية عن يد وهم صاغرون، واهتز عرش كسرى بذكر ذي الثوب المرقع الذي توسد التراب، واليوم يتبجح العلمانيون بفقه سياسات وفلسفات: ماركس ولينين وسارتر وديكارت ................. إلخ من الفلسفات والسياسات المستوردة.

وقد عجز الفكر العلماني المعاصر عن حكم أقطار محدودة المساحة والتعداد، فصارت دول الشرق المسلم من أكثر دول العالم مشاكل وأزمات، بينما نجح الفكر الإسلامي الشرعي في قيادة دولة وصلت مساحتها في عهد الدولة العثمانية إلى نحو عشرين مليون كيلومتر مربع، موزعة على ثلاث قارات، وأصحاب العقول يمكنهم التمييز بين الحالين بلا عسر أو مشقة!!!!.

وعن كمال عقول السلف، رحمهم الله، يقول ابن أبي العز، رحمه الله، شارح الطحاوية:

"ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما، لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟، ولم نهى عن كذا، ولم قدر كذا، ولم فعل كذا، لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم"."شرح الطحاوية"، ص239.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير