تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(وهذا أمر مشاهد فيمن هداه الله، عز وجل، لطريق الحق، فإنه في بادئ أمره، يكون حريصا على الطاعات التي تؤثر تأثيرا مباشرا في زيادة إيمانه وابتهاج قلبه وانشراح صدره، فيشاهد منكبا على الصلاة والصيام والصدقة وقراءة القرآن والصدقات وحضور الجنائز ............. إلخ، من وجوه البر، ولك أن تتخيل إذا ما بدأ طريقه بدراسة علم جاف كـ: "علم أصول الفقه"، أو "علم النحو" بتشقيقاته ومسائله الخلافية!!!!!، أو إذا ما بدأ النظر في المصحف بمطالعة آيات الأحكام كآيات المواريث على سبيل المثال، لا شك أن هذا سيفسد عليه أمره لأنه بحاجة إلى الإيمان في بداية طريقه أكثر من حاجته إلى العلم، مع أن العلم حتم لازم للإيمان، ولكن تفصيله ابتداء لا يقوى عليه كثير من المسلمين، فتكون الصلاة في حقه أفضل من حضور مجالس العلم، مع أن مجالس العلم أفضل من صلاة النافلة، ويكون الذكر أفضل في حقه من قراءة القرآن، مع أن قراءة القرآن أفضل، ولكنه لا يجد قلبه في قراءة القرآن كما يجده في الذكر، والمقصود هو الذكر الشرعي لا السماعات والأذكار المبتدعة التي استغنت بها أقوام عن قراءة القرآن، فعرض للفاضل هنا ما جعله مفضولا متأخرا، وللمفضول ما جعله فاضلا متقدما، تماما كالصلاة والطواف، فالصلاة أفضل في حق المكي لأن الطواف متيسر له في كل وقت، والطواف أفضل لمن ليس من أهل مكة، لأن الطواف لا يتيسر له في كل وقت، فسرعان ما يقضي نسكه ويغادر إلى بلده، فليستزد إذن قدر الإمكان مما لا يجده في بلده من صنوف الطاعات).

وهذا أصل عظيم في ترتيب أولويات المسلم وتنظيم حياته لئلا يصرف عمره في أعمال، وإن كانت صالحة، إلا أن غيرها في حقه أصلح وأعظم أجرا.

ويعقد ابن تيمية، رحمه الله، مقارنة بين شرائع الأنبياء وأحكام المجتهدين التي تختلف كاختلاف الشرائع، وإن كانت دائرة اختلافها داخل الملة الواحدة، فيقول:

"أما وجه المخالفة فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الإقرار على الخطأ بخلاف الواحد من العلماء والأمراء فإنهم ليسوا معصومين من ذلك ولهذا يسوغ بل يجب أن نبين الحق الذى يجب اتباعه وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر.

وأما المشابهة فلأن كلا، والكلام عن المجتهدين، مأمور باتباع ما بان له من الحق بالدليل الشرعى كأمر النبي باتباع ما أوحي إليه وليس لأحدهما، أي: أحد المجتهدين، أن يوجب على الآخر طاعته كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد ويشبه النسخ فى حق النبي لكن هذا رفع للاعتقاد وذاك رفع للحكم حقيقة وعلى الأتباع اتباع من ولي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده كما على الأمة اتباع أى نبي بعث إليهم وإن خالف شرعه شرع الأول لكن تنوع الشرع لهؤلاء، أي المجتهدين، وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الأمر النازل على الرسول ولكن تنوع أحوالهم وهو إدراك هذا لما بلغه من الوحى سمعا وعقلا وعجز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ إما سمعا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص وإما عقلا لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص".

"مجموع الفتاوى"، (19/ 123، 124).

فالانتقال من اجتهاد إلى اجتهاد في ملة واحدة، كنسخ نص بنص، من جهة ترك العمل بالأول، لا من جهة أن للمجتهد حق النسخ كما لصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، لأن الأول غير معصوم والثاني معصوم لا ينطق عن الهوى بالإجماع، الذي يكفر منكره، والمقلد مع مفتيه، كالصاحب مع نبيه، مع التأكيد على الفارق بينهما، فالنبي قوله واحد لا يتعدد فلا يحكم في المسألة الواحدة بحكمين، إلا فيما نسخ من أحكام، واتباعه اتباعا مطلقا أمر لا يسع المكلف الخروج عنه، بينما المجتهد لا يجب اتباعه مطلقا في كل آرائه لأنه غير معصوم، وآراء المجتهدين تتعدد بتعدد استنباطاتهم، فيفهم أحدهم من النص ما لا يفهمه الآخر، ولذا فإن المقلد مطالب بالاجتهاد في اختيار أعلمهم وأورعهم.

ويذهب الشاطبي، رحمه الله، إلى أبعد من ذلك إذ يقول:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير