"فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة، (لعدم امتلاكهم آلة الاجتهاد والنظر في النصوص)، وقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع "
بتصرف يسير من "الموافقات"، (4/ 292، 293).
ولا يعني يذلك أن قول المجتهد يطابق الدليل الشرعي من كل وجه، إذ عبارة الشاطبي، رحمه الله، واضحة: "كالأدلة الشرعية"، فهو يشبهه من أوجه دون أوجه، فيشبهه من جهة:
كونه واجب الاتباع في حق المقلد، لأنه استفرغ الجهد في تحري المفتي الأورع الأعلم، بخلاف ما إذا فرط في ذلك، فيكون آثما لأنه لم يأت بالاجتهاد الواجب عليه في اختيار مفتيه، ولا يعني وجوب الاتباع هنا عصمة القول أو القائل، بل قد يكون القول، مع كل هذا الاحتياط خطأ، خلاف الدليل الشرعي المتلقى عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو يشترك مع قول المجتهد في كونه واجب الاتباع ولكنه يمتاز عنه بأنه لا يحتمل الخطأ من أي وجه، ولذا وجب الرجوع إليه متى عارض قول المجتهد.
ومن رحمة الله، عز وجل، بعباده: أن عفى عن الخطأ في الاجتهاد إذا ما استفرغ المجتهد والمقلد جهديهما في طلب الحق، بل إنهما يثابان على شدة تحريهما للحق، وإن لم يصيباه في الواقع.
وقول العالم أو المجتهد كالنجم في السماء، يستدل به على جهة القبلة، فمتى تيقن الناظر فيها من جهة القبلة بخبر جازم أو رؤية عين، لزمه أن يعدل عن دلالة النجوم الظنية إلى دلالة الخبر أو الرؤية اليقينية، وكذا الحال في قول المجتهد، فإنه يعدل عنه، كائنا من كان، إلى قول صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم متى ثبتت صحته، سواء في العقائد أو الشرائع، متواترا كان أم آحادا، فمدار الأمر على صحة النص، وهو ما يستقل بمعرفته أهل صناعة الحديث دون سواهم، فيصح عندهم ما لايصح عند غيرهم، ويتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم.
وأما الخطأ في الاجتهاد فإنه يغفر، كما تقدم، لكل من استفرغ جهده في طلب الحق، وإن لم يصبه في الواقع، سواء كانت المسألة من الأصول أو من الفروع، فالعذر بالجهل ثابت في كل أصول الدين وفروعه، مع ملاحظة أن الجهل جهلان:
جهل يعجز صاحبه عن معرفة الحق، فهذا هو الذي يعذر صاحبه، ولو كان في أصول لا يتصور جهلها، كما في قصة الرجل الذي جهل قدرة الله، عز وجل، على نشر الأبدان، فأوصى أولاده بإحراقه، وتذرية رماده في يوم راح لعله يضل ربه، فإن ربه إن قدر عليه سيعذبه عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ولو فعلها أحد اليوم في مجتمع مسلم، أعلام الإسلام فيه ظاهرة، والحجة فيه قائمة، لكفر بالإجماع، ولكن ذلك الرجل عذر بجهله، لأنه آمن بالله، عز وجل، إيمانا مجملا، وجهل عموم قدرته من غير تفريط في طلب الحق، فقد كان معظما للرب جل وعلا، وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التى من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ فى المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
وما زال السلف يتنازعون فى كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية كما أنكر شريح قراءة من قرأ: (بل عجبت ويسخرون)، بضم تاء الفاعل في "عجبت"، وقال إن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه كان عبدالله أعلم منه وكان يقرأ: (بل عجبت)، وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه وقالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها إنه مفتر على الله، (لأنه أثبت الرؤية على تفصيل ليس هذا موضعه) وكما نازعت فى سماع الميت كلام
¥